د. محمد بن إبراهيم الملحم
في هذه السلسة التي أختمها اليوم عرفت بأهم نظريات التغيير وكتّابه المهمين خاصة في مجال التغيير التعليمي ثم فصلت في مساري التغيير الشهيرين: من الأعلى للأسفل ومن الأسفل للأعلى وأشرت إلى «التغيير المخطط له» ودوره المهم في جمع الخصائص النوعية لكلا المسارين مقابل التخطيط التلقائي أو النمطي التقليدي، كما وضحت متى يعمل كل من هذين المسارين وخصائصه ومتطلباته وقدمت أمثلة حية عايشناها جميعاً لكل منهما، ووضحت أثناء ذلك الفرق بين مصطلحي «صانع» القرار و»متخذ» القرار حيث يكثر الخلط بينهما، وحيث إن التغيير يسير لدينا غالباً بناء على اجتهاد الرئيس يدعمه موافقة تلقائية من مجلس الإدارة بحكم سلطة الموقع الوظيفي، فقد أشرت إلى دور المجالس «المستقلة» في الدول المتقدمة في قرارات التغيير وأنها ما تكفل إبعاد التحيز والفردية ليغدو التغيير قائماً على أسس علمية غالباً، وقد وضحت بعدئذ دور السياسيين في التغيير «التعليمي» تحديداً وقصر نظرتهم إليه لا لعيب فيهم ذاتيا ولكن لأنه تغيير نوعي دقيق، بينما تعاملهم معه سيبقى سطحياً لأنهم غالباً ينظرون إلى نتائجه (بعد التطبيق) لا إلى تصميمه، وأكدت على أن التغيير عملية مستمرة فهو لا يحدث مرة واحدة بل يتجدد بتجدد متغيرات الحياة والتي أول ما يجب أن يسايرها هو التعليم، ومن أهم أدواته الفعالة المشاركة participation والتي عدها كثير من الكتاب عصب التغيير التعليمي، وقد أوردت عوامل التغيير التي تجعله ناجحاً وأولها عملاء التغيير change agents، وقد ذكرت مستوياتهم الثلاثة القيادة العليا (متخذو القرار) والوسطى (صناع القرار) والدنيا (منفذو القرار) ودور كل منهم وتأثيره على قرارات التغيير وخاصة المنفذون (مديرو المدارس) موضحا تفاصيل مهمة في هذا الشأن، ثم ذكرت العامل الثاني للتغيير وهو «خدمات التغيير المساندة» الثلاثة متمثلة في الترويج والتدريب والتقييم فبدونها لا يسير التغيير بسهولة وشرحت كلا منها في حلقة أو أكثر مركزاً على أهمية التقييم، فهو يأتي قبل وأثناء وبعد التغيير ليكون المحضن الآمن لتغيير سليم منذ البداية حتى النهاية.
وضحت بعد ذلك جانبين مؤثرين على التغيير هما البنية المؤسساتية التحتية والتواصل، والأولى تتمثل في بناء وحدات المؤسسة التعليمية التي تقدم على التغيير التعليمي وهيكلها وتدفق السلطة فيها لما لذلك من أثر على قرارات وتنفيذ التغيير بسهولة ويسر والثانية تعنى بالتواصل بين وحدات المؤسسة حيث يؤثر ذلك على مرونة حركة التغيير وسرعة التصرف فيه. وأشرت بعدئذ إلى الأثر المهم لـ «ثقافة العمل» فهي التي تصنع تقبل التغيير لدى الأفراد، وأكدت أنها لا تبنى في يوم وليلة بل هي نتاج جهد طويل من التوعية والتأسيس وتوفير القدوة (وهي الأهم) وزرع قيم الانتماء للمؤسسة وللمهنة، كما سردت بعضاً من أمراض ثقافة العمل لدينا.
وكما يلاحظ فقد قدمت في هذه السلسلة وجبة شبه دسمة حول أهم مبادئ التغيير وأسسه، وهناك كثير يمكن الحديث عنه بيد أني حتى لا أطيل أكثر اكتفيت بهذه الجوانب لأنها متمثلة في واقعنا وفي مؤسساتنا التعليمية، وأتمنى أن تتحرك يد التغيير يوما ما بطريقة احترافية وبها أثر مما أشرت إليه أو بعضاً منه، فقد تعب المجتمع من التجارب بطريقة trial and error والتي نهشت في جسد تعليمنا سنوات طوالا، والتي أرى أن ما مهد لها كممارسة مستمرة الثقافة الهشة حول أسس التغيير مع النظرة الدونية لمسألة علوم التربية والتعليم ومقتضياتها المتنوعة، وذلك في كل مجالاتها: المناهج وطرائق التدريس والإدارة والتخطيط والقياس والتقويم وتقنيات التعليم، فكلٌّ يفتي في التعليم كما يشاء، ولا يقتصر ذلك على غير المختصين بل حتى بعض المختصين لدينا مع الأسف يتخرصون كثيراً ويجترؤون على النظريات والنماذج العلمية، وأشنع ما في ذلك عندما ينزل بعض صناع القرار النظريات منزلة الحقائق تارة، ويضربون بها عرض الحائط تارة أخرى، طرفاً نقيضا، يحكمهما هوى الموقف الإداري ومصالحه لا النظرة الاستراتيجية وتقدير العلم واستنتاجاته.
وترى أيضا مذهبا آخر في التغيير يتمثل في التقليد الأعمى لمجتمعات متقدمة دون النظر إلى واقعنا ومتطلباته واحتياجاته، ومثال ذلك الصارخ ترجمة مناهج العلوم لماكجروهيل لطلابنا بكل ما فيها من صعوبة وعسر على فهمهم اللغوي الذي لم يصل لمستواه لدى من يدرسون هذه المناهج في مدارس الغرب (كل بلغته) حيث العناية اللغوية متقدمة جداً عما لدينا. عندما تفتش لا تجد لدينا إبداعا تعليميا خاصاً بنا، فنحن ننظر فقط إلى ما لدى العالم ونستورده، استهلاكيون حتى في الفكر التربوي والإداري لا في بضائعنا واحتياجاتنا المادية فقط، وأنبّه أن بعض الناس قد يخلط بين التغيير والتطوير، وفي الواقع قد يوجد التطوير ولكن لم يتوفر التغيير بعد، فليس كل تطوير يؤدي إلى تغيير، فلدينا مثلاً وجدت محاولات ناجحة للتطوير ولكنها لم تحدث تغييراً، ومن أمثلتها المناهج الإلكترونية، وتحسين المباني التعليمية والنقل المدرسي، وكما يلاحظ كلها جوانب مادية لا تحتاج إلى أكثر من ضخ الأموال وحسن إدارتها، بينما لم يحدث تغير ملموس في «تعلّم الطالب» أو في مستوى «تدريس المعلم»، وهما العنصران الرئيسان في التغيير التعليمي، فأي تطوير لا يسهم في إحداث التغيير في أحدهما فلن يكون سوى إضافة يشكر فاعلها ولا يأثم تاركها.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً