د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ابن شهيد الأندلسي شاعر وناثر مميز، يقول شعراً لا تكلف فيه ولا تقعر، ولم ينل حظه من العلم الغزير مثل شعراء الأندلس الآخرين، كابن زيدون، أو ابن الخطيب، أو ابن عباد، لكن الله قد منحه موهبة وسليقة جعلته من أفضل الشعراء الأندلسيين على الإطلاق، وقد أثنى المؤرخون على شاعريته وملكته المميزة، ونشأ هذا الشاعر في طفولته وشبابه في رغد من العيش، تحت رعاية الحاجب المنصور القائد المسلم العظيم، وأبنائه الحاجب عبد الملك المظفر، والحاجب عبد الرحمن شنجول وقد انغمس هذا الشاعر في ملذاته ومباهجه، مدمناً على مجالس اللهو والشراب طيلة عمره القصير، حيث لم يتجاوز الرابعة والأربعين من العمر، وقد أسرف في لهوه وإنفاق ماله حتى شارف الإملاق، وقد دار الزمان دورته، وأفل نجم عترته ومناصريه العامريين، فتخلى الناس عن نصرته، كما هي العادة غالباً في كل زمان ومكان، فاستخدم لسانه للتملق والتزلف بجميع العبارات، وتلمس ذلك بشتى الأسباب، وقد بلغ مرتبة الوزارة، غير أن عمره فيها لم يطل، لكثرة حساده، بسبب طول لسانه، ومجاهرته بالخنا والمجون.
قال عنه ابن حيان شيخ المؤرخين في الأندلس ( كان أبو عامر يبلغ المعنى ولا يطيل سفر الكلام، وإذا تأملته ولينه، وكيف يجر في البلاغة رسنه، قلت عبد الحميد في أوانه، والجاحظ في زمانه، والعجب منه أنه يدعو قريحته إلى ما شاء في نثره ونظمه، في بديهته ورويته، فيقود الكلام كما يريد دون اقتناء الكتب، ولا اعتناء بالطلب، ولا رسوخ في الأدب، فإنه لم يوجد له نظير رحمه الله).
سأقف قليلاً عندما قال عنه ابن حيان، بعد أن جار عليه الزمان، وسقطت دولة بني عامر وزال الأمان، وتفرقت الأندلس إلى دويلات، جرَّت معها الويلات، فلم يعد ابن شهيد يجد ذلك الجدار الذي يتكئ عليه، وبحث عن جدار آخر، فلم يجد لجدار بني عامر بديلاً، ولم يكن الأمر كذلك فحسب، بل ظهر خلف الجدار من يعوي وينبح، وينهش وينهس، فما كان منه وهو الذي عاش طفولته وفتوته في نعيم بني عامر، إلا أن يطرق الأبواب، راجياً النوال والثواب، ووصل إلى منصب الوزارة لفترة قصيرة من زمن التقلبات السياسية.
قال عنه ابن بسام صاحب الذخيرة (ومنهم أبو عامر ابن شهيد فتى الطوائف، كان بقرطبة في رقته وبراعته وظرفه خليعها المنهمك في بطالته، وأعجب الناس تفاوتاً بين قوله وفعله، وأحطهم في هوى نفسه، وأهتكهم لعرضه، و أجرأهم على خالقه).
بعد الفتنة القرطبية التي يقول البعض إن ابن زيدون أحد أقطابها، لم يبق لبني عامر شأن سوى المؤتمن عبدالعزيز ابن الحاجب عبدالرحمن العامري ابن الحاجب المنصور الذي ذهب إلى الجهه الشرقية من بلنسية وتدمير، وأقام هناك وكان ابن شهيد يراسله، مبقياً ولاءه لأولياء نعمته ونعمة والده، وقد استدعاه المؤتمن عبد العزيز للقدوم إليه لكنه اعتذر لتعلقه في مدينته قرطبة التي أحبها وقال فيها أبيات من الشعر، يبين فيها ما آلت إليه، ومنها هذان البيتان :
عجُوزٌ لَعمْرُ الصّبا فانِيهْ
لها في الحشَا صُورةُ الغانِيهْ
زَنَتْ بالرِّجالِ على سِنِّها
فَيا حبَّذَا هِي مِن زانِيهْ
بعد أن تحدثنا يسيراً عن ابن شهيد فيطيب القول عن قصيدته التي من أجلها كتبت المقالة، وهي مرسلة إلى المؤتمن عبدالعزيز العامري، بعد الاستدعاء والاعتذار، وهو لم يسر فيها على خطوات من قبله من الشعراء كالاستهلال بالغزل أو النوح على الأطلال، ولم يبجل ممدوحه مباشرة مثل عادة بعضهم، وإنما صاغها بعد مزجها بتشبيهه بالطبيعة فقال :
وغَمامٍ باكَرَتْنا عَيْنُهُ
تُتْرِعُ الأُفْقَ بدَمْعٍ صَيِّبِ
مِثْلَ بَحْرٍ جَاءَنا مِن فَوْقِنا
جِرْمُه مِن لُؤْلُؤٍ لم يُثْقَبِ
وهو يصف غمامة قد جاءت مبكرة فتساقطت قطراته كالؤلؤ الذي لم يثقب وكان سقوطه سحاً غدقاً.
فسَأَلْناهُ وقد أَعْجَبَنا
حَشوُهُ العَيْنَ بمَرأى مُعْجِبِ
أَنْتَ ماذا ؟ قالَ : مُزْنٌ عَلَّمَتْ
كَفَّهُ النُّفخةَ كَفَّا دَرِبِ
سامَني بالشَّرْقِ أَنْ أَسْقِيَكُم
رَحْمةً منه بأَقْصَى المَغْرِبِ
ثم تساءل من أي جهة أتى فقال إنه قد قدم من المشرق، وبهذا يقصد المؤتمن العامري وإنما أتي رحمة بأولئك الساكنين في أقصى المغرب، ويقصد بذلك القاطنين في قرطبة ويخص فيها منها ابن شهيد الشاعر ثم يقول :
فَسَأَلْناهُ أَينْ ذاك لنا
قالَ: هل يَخْفى ضِياءُ الكَوْكَبِ
مَلِكٌ ناصَبَ مَن خالَفَكُمْ
عامِرِيُّ المُنْتَمَى والمَنْصِبِ
فَعلمْنا أَنَّهَا نَفْحةُ مَن
وَرِثَ الجُودَ أَباً بَعْدَ أَبِ
والأبيات الثلاثة لا تحتاج إلى إيضاح.