ناصر العديلي
"إن الحداثة تحمل في تكوينها وفي أحشائها وبدون توقف مابعد حداثتها "
ف. ليوتار
نعيش في عصر ثقافة ما بعد الحداثة والتنوير التقني ، ليس ما نشهده اليوم اختفاء السرديات الكبرى فحسب، ولكن نشهد موت مسافات وتعدد ثقافات وتنوع تقنيات ، ونسبية للحقائق ونعيش في زمن الحقائق المتعددة ، ومحو الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال وتوليد ابتكارات وبروز أجيال تعيش انقطاعات عن الأجيال السابقه وتعيش فرص وتحديات هي جديرة بها وتستحقها. في تقديري أن ما بعد الحداثة أصبحت ثقافة جديدة ، أسدلت الستار على عصر الحداثة سياسيا واقتصاديا ولغويا وأدبيا وفنيا ، لأن التطور التقني والاتصالي المتسارع والتغيرات التي نشهدها ونعيشها في المجتمعات المعاصرة وعولمة المجتمعات خلقت عالم جديد وثقافه جديدهل ما بعد الحداثه وانعكست على جماليات الفن والأدب والموسيقى والمسرح والسينما وأساليب الترفيه وحتى العمارة.
حالة ما بعد الحداثه المستمرةيتميز تشخيص وتحليل الفكر الغربي بأنه يعتمد على المنهجية العلمية وتراكمية المعلومات للبحوث والدراسات وفحصها بشكل دقيق ومتعمق وشمولي للوصول الى نتائج وتوصيات،ونجد ذلك متمثلا في كتاب المفكر الفرنسي جان فرانسوا ليوتا ر Jean –Francois Lyotard( 1924-1998 ) "الوضع مابعد الحداثي : تقرير عن المعرفة " الذي اعتبر ان الحداثه هي " حالة " ويعتبر من أهم المفكرين المعاصرين الذين شخصوا الوضع مابعد الحداثي الذي انعكس على مجالات متعدده في العالم مثل الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتقنية والادبية والفنية والمعمارية ، ففي هذا الكتاب الصادر عام 1979 أكد في مقدمته أن موضوع هذه الدراسة هي " وضع المعرفة في المجتمعات الاكثر تطورا" واستخدم كلمة ما بعد حداثية وهي الكلمة الشائعة في القارة الامريكية بين السسيولوجيين والنقاد ويتحدث عن " حالة ثقافتنا في أعقاب التحولات التي غيرت قواعد اللعب منذ نهاية القرن التاسع عشر وربط هذه التحولات في سياق أزمه الحكايات.
ما يميز الكتاب أنه دراسة علمية وفكرية تحليلية واقعية .فليوتار يحلل هيمنة العلم والتقنية ووسائل الاتصال والاعلام الجديدة وتأثيرها الكبير على الانسان ،ويركز على تأثير التقنية والعلم والأدائية والإبداع والابتكار بفضل التقنية المتسارعه والخيال الانساني في عصر المعرفة ، وكأني به يتفق و يستكمل ما كتبه الكاتب الأمريكي المستقبلي الفن توفلر Alvin Toffler ( 1928-2016) في كتابه الأول ( صدمه المستقبل Future Shock) الصادر عام 1970 والذي حلل فيه تغيرات المستقبل واغلبها تحققت ، وكتابه الثاني الموجة الثالثه ( The Third Wave) الصادر 1980 والذي يتحدث فيه عن الحضارة الحديثه بمناهجها المختلفة والتطورات الأخيرة التي شهدها العالم مثل سقوط الفكر الشيوعي وتوجه دول العالم الى التكتل وتحلل الفكر الراسمالي وثبات لا انسانيته وتعرض الحضارة الحديثة لضغوط جماهيرية تخلص من استغلالها اللامحدود ،وكتابه الثالث (تحول القوة Power shift ) 1990 والذي يرى فيه أن المعرفة والثروة والعنف على حافة القرن الحادي والعشرين . وكتابه الرابع مع زوجته هيدي توفلر Heidi Toffler ( الثروة الثورية Revolutinary Wealth ) 2006 ، وهو تكملة لكتابه الموجة الثالثه يتحدث عن التأثير بعيد المدى للتطورات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية الناشئة على الحكومات والأعمال وحياة الناس اليومية.
وفي هذا الكتاب القى الضوء على الاتجاهات الحالية وتوقع ما تعنيه للمستقبل.وقد استثمر ليوتار تغيرات نهاية الستينات وبدايه السبعينات الميلاديه من القرن العشرين ليؤكد على وجهات نظر وتوقعات توفلر المستقبليه وكتابه( الوضع مابعد الحداثي ) يعتبر دليل عملي تطبيقي لحالة ما بعد الحداثة للجامعات الحديثه في منهجية البحث العلمي المتعمق والشمولي كدراسة نوعية للمحتوى وتغيرات العصر خصوصا العلمية والتقنية ووسائل الاتصال والإعلام ومنهجية الكتاب علمية فكرية مبسطة تعتمد على التحليل الإحصائي وتحليل المضمون من خلال متابعة دقيقة للتطورات التقنية والاتصالية والابداعية .
وجاء الكتاب كرؤية علمية تسقط الميتافيزيقيا والفلسفة المثاليه والراسماليه كسرديات كبرى ينظر اليها، ويركز ليوتار في طرحه الفكري لمابعد الحداثة على جزيئات مجالات الحياة من خلال فحص وتقيم وتحليل التغيرات الاقتصادية والتقنية والإعلامية في العالم من حوله ، وجاءت تبصراتة الدقيقة والذكية مقنعة بمجال عصر ما بعد الحداثه .
وان كان تشخيصه خاص بالدول الاكثر تطورا ، الا اننا نرى ان أفكار وثقافة ما بعد الحداثة بدات الان تغزو كافة انحاء العالم في الاقتصاد و الفنون والآداب، وتمثلت في ظواهر ثقافية متعددة مثل الأقليات و النسوية ومابعد الاستعمار وغيرها ،ونلاحظ ان المملكة العربية السعودية أصبحت إحدى دول العشرين ، تنافس بعض الدول المتقدمه وتنعكس مابعد الحداثة فيها على مجالات حياتيه متعددة.
ويرى ليوتار في كتابه الثاني ( في معنى مابعد الحداثة ،2016) " أن الحداثة تحمل في تكوينها وفي أحشائها وبدون توقف مابعد حداثتها " (ص 71 ) وهذا يعني أن مابعد الحداثة هي تحسين مستمر للحداثة التي توارت مع التغيرات التقنية أو "إعادة كتابة الحداثه " حسب وصف ليوتار .ويرى نتونجيلا ماسيليلا أن هناك ثلاثة مظاهر متداخلة وأساسية مميزة لنظرية ما بعد الحداثة لدى ليوتارية وهي :
1: تشككه الواضح بما عرف بتسميته “الميتا روايات”أو “ما وراءالسرديات” والتي يعتقد أنها الحقت ضرراً بالغاً بالنظريةالاجتماعية والبحث الفلسفي.
2 : رفضه” للموضوع الشمولي” وما يرتبط بذلك من مسببات شمولية، لهذا يرى في بروز ما بعد الحداثة بداية لنهاية العقلانية.
3 : ايمانه أن النمط الجمالي لما بعد الحداثة هو النمط “المتعالي المرتبط على نحو وثيق، وفقاً له، بالنظرية الجمالية ل (كانت.)، و تمثل الميتارواياتلليوتار مجمل فلسفات التاريخ التي سعت الى ترسيخ فكرة اطلاقية المعرفةالبشرية بتقديمها تفسيرات محددة وحاسمة للمجتمع.
أنماط المعرفه الانسانيه عند اليوتاريعتبر ليوتار أن المعرفة العلمية هي نوع من الحكايات ، وان علوم وتقنية الصدارة ترتبط منذ سنوات طويله بلغة (التكنلوجيا والنظريات اللغوية)، كما يعتبر أن مقياس معيار التشغيل هو معيار تكنلوجي وليس له علاقة بالحكم على ماهو صادق وماهو عادل "كما يعتبر لوتار الحكايه بنيه معرفيه ويقسم المعرفه الإنسانيه الى ثلاثه انماط (المجتمع القبلي والمجتمع الحداثي والمجتمع مابعد الحداثي)
أولا: مجتمع المعرفة القبلي :هو مجتمع بدائي يستخدم الحكايه الأسطورية او ما نسميها الخرافة الشعبية الخيالية وسرد الحكايات القديمة التي ترى وتنقل من شخص الى شخص اخر او من جماعه الى جماعه ويمثله في مجتمعنا ( جيل اجدادنا الذين يستمتعون بسرد الحكايات والاساطير وسير الابطال حسب بيئتهم وثقافتهم الشعبية .)
ثانيا : مجتمع معرفة الحداثة ، يعتمد في عرض المعرفة وتحديد مشروعيتها معتمدا على ( السرديات الكبرى) ويعتمد في نقلها على منهج تبريري تقوم به المؤسسات ويمثله في مجتمعنا ( جيل الإباء الذين يؤمنون ببعض السرديات الكبرى كالقومية والعروبة وغيرها .)
ثالثا : مجتمع معرفة ما بعد الحداثة: هو المجتمع التقني والذي يعتمد على المعلومات التي تتطور مع التطور التقني المستمر وبنوك المعلومات وأجهزه الحاسب المتنوعة واالإنترنت ومصادر ووسا ئط التقنية الحديثة مثل جوجل وغيرها، وهدفها ليس التبرير، ولكن تعتمد على منهج ابتكارات جديده ونقلات جديدة متجاوزة وغير متوقعة، ويكون العقد في هذا المجتمع متميزا بالمرونه ويستجيب لنوع الإبداعات والابتكارات و حاجات تتعلق بذات الفرد كما يستهدفها في الأجيال الجديدة ، ويمثله في مجتمعنا ( جيل الأحفاد الذين يعيشون عصرا جديدا ورؤية جديدة تحمل بشائر الخير والامل والتقدم والانجاز بوجود قيادة شابة واقتصاد قوي وتعلم متنوع وتقنية متجددة وخيارات وظيفية متعددة وفرص إبداع وابتكارحسب التخصصات . ) .
التنوير التقني للجيل الجديد لقد برز ما يعرف بعصر التقنيه وعصر ما بعد الصناعي الذي يمهد لتطورات إبداعية في المعرفة والتقنية و الذكاء الاصطناعي وصنعت جيلا جديدا يفكر بطريقه مختلفه وهذه التحولات التقنيه تؤثر بشكل كبير في العقول والمعارف وآليات التفكير.ان المجتمع المابعد الصناعي هو مجتمع اليوم (الذي يعتمد في أنظمة الاتصال على إنتاج المعلومات أكثر مما يعتمد على البضائع) لهذا تبرز وتتميز نسبه الأفراد العاملين في مهن التعليم وتوليد الأفكار ونقدها مثل العلماء والتربويين والمهندسين وغيرهم.
و الجيل الجديد يتمتع بخيارات معلوماتيه ومعرفيه متعدده لا يعتمد على مصادر معلومات من الراديو أو القنوات المحليه الا نادرا، أصبحت مصادر المعلومات والتنوير الثقافي والعلمي متعدده تصله الاخبار والبيانات والمعلومات من وسائط التقنيه المتعدده (تويتر، فيسبوك، انستجرام تيك توك ) والكتب الإلكترونيه ويشاهد الأفلام من عدة مصادر( اليوتيوب والنتفلكس والسينما ) أو غيرها ،و خلال ال 24 ساعة من يومه يعيش بجانب اجهزه الجوال والآيباد والحاسب ، ياكل ويعمل ويقود سيارته ويشاهد جهازه المرتبط به وكأنه جزء منه .هذه ( البيانات والمعلومات والمعارف والحكمه ) التي تمثل نموذج اداره المعرفه KN المعاصرة تشكل عقليه وثقافه تنويريه لشباب هذا العصر.
هوامش :
- جان فرانسوا ليوتار، الوضع مابعد الحداثي: تقرير عن المعرفة ، ترجمة احمد حسان، دار شرقيات ، ط1 ، 1994
- جان فرانسوا ليوتار، في معنى مابعد الحداثة، نصوص في الفلسفة والفن،ترجمه السعيد لبيب ، المركز الثقافي العربي، 2016، الدار البيضا المغرب .- نتونجيلا ماسيليلا ، السجالات الفلسفية لما بعد الحداثة، ترجمة هنا خلف غني ، 2020 موقع حكمة ، (ص 5 ).