د.فهيد بن رباح الرباح
وقبل ذكر ما يستلزم إيراد الملاحظ والمستوقفات أذكِّر بأمرٍ هامٍّ ذي ذيول وأثر كبير، وثمرة ذات مرارة، وهو بعد نتيجة لسيطرة العاطفة، بل هو من دقيق مآخذ العاطفة ومظاهر الحيدة، وفيه خروج من المنهج العلميِّ، وإن صوِّر الطَّرح أنَّه ذا منهج علميٍّ، أو تصوَّره صاحبه أنَّه وِفاق المنهج العلميِّ يسير، وعلى جادَّة سبيله ينسلك كلامه وطرحه.
ذلك ما يصنعه بعض المتخصِّصين من الدَّعوة إلى تعديل القواعد النَّحويَّة، وما حُكم بمخالفته، وما يشترط لبعض الأبواب والأحكام والتَّراكيب والصِّيغ من شروط، وما يجوز فيها وما لا يجوز.
فتجد الدَّاعي من هؤلاء يدعو بالنَّظر إلى بعض ما جاء في بعض القراءات القرآنيَّة، وما ورد في بعض روايات الأحاديث النَّبويَّة ممَّا جاء فيهما مخالفاً بعض الضَّوابط أو الاشتراطات التَّقعيدات الَّتي صنعها النَّحويُّون لا اعتباطاً، ولكنَّما هي نُشرت من قراءة واستقراء، وتتبع واستنباط من كلام فصحاء العرب، باعتبار الحدَّين الزَّمانيِّ والمكانيِّ.
وهذه الدَّعوة الملاحظ عليها أنَّها لم تكن في الرَّعيل الأوِّل، ولا كانت في جيل الأئمَّة الفحول، وإنَّما نبتت متأخرة، وتظهر وتخبو طيَّ القرون إلى أن أشرق العصر الحديث، فبانت أكثر، وزهت أشهر، ببريقها تخدع النَّاس بعاطفتها، وتحكيم العاطفة عاصفة بالمحكَّم، عاطفة بالمحكِّم عن الطريق الموصل إلى الحقائق.
هذه الدَّعوة وإن كان فيها دعوى، وظاهرها يبدو صحيحاً غير أنَّ خبيئته على نقيض ذلك، بل فيه تفويت لأمر هامٍّ، وإخلال بمقصدٍ سامٍ، وإخلاف لغرض نبيلٍ جليل، وهو عبثٌ من تصوِّرٍ غير محسوب العاقبة، ولا مستنظر لثمره، الَّتي قد تكون مرّاً علقماً، وسيبين ذا الأمر ومضمون هذا الخبر من لاحق حديثي هذا وتابعه.
والأصحُّ، بل الواجب، أو هو المنهج العلميِّ أن يبحث المتخصِّص عن وجه هذه المخالفة، وسرِّ عدم الأخذ بالشَّرط المشروط لمثل ذلك، لكون ما خالف صادرٌ من فصيح، وكذلك القواعد مبنيَّة على كلام فصيحٍ، فحينئذٍ يبحث عن سرِّ تلك المخالفة وغرض تلك الصِّياغة، وهو ما يعرف بالأسرار البلاغيَّة للقراءات وللأحاديث والإعجاز البيانيِّ فيها، وتطلُّبه وتقرِّيه وبذل الوسع في استنباط مكنوناته واستدار درره، لا أن تعدَّل القاعدة بناءً على ورود قراءة مخالفة أو وجود رواية للحديث مخالفة، وتقتل النُّكتة البلاغيَّة بذلك، ويمات السِّر البلاغيُّ، ويطفأ الوهج البيانيِّ المقصود من تلك الصَّياغة وذلك التَّركيب و تفويت ذلك الشَّرط، ومخالفة ضابط أو بعض ضوابط ذلك الباب.
وهؤلاء الدَّاعون يفعلون ذلك بحسن نيَّة لا بسوء نيَّة، وبحسن قصدٍ لا بسوء قصدٍ غير أنَّ جهدهم ودعوتهم هي بوهج عاطفة لا بمنهج علميٍّ؛ وبناءً على ذلك يكون ما يدعون إليه في الحقيقة يضرُّ ويخلف أكثر ممَّا يسرُّ وينفع، وهذا أثر دقيقٌ خطرٌ من آثار سيطرة العاطفة.
وعوداً على ما سبق أقول: يستلزم عند بيان الملاحظ والمستوقفات وإحاطة القارئ بها آدابٌ يؤخذ بها منها أنَّ يحفظ للشَّخصِ المنتَقَدِ قولُه وكتابتُه احترامَه، ويستبقَى له وقاره، خصوصاً إذا كان كبيراً قديراً، إذ الغاية من الطَّرفين الكاتب والنَّاقد الإفادة َوالنَّفع فيما قال أو كتب، ويجب أن يتقصَّد النَّاقدُ حينئذٍ المكتوب لا الكاتب، والمقيَّد لا المقيِّد، والموضوع لا الواضع، وأن يكون ذلك بعبارة علميَّة بعيدة عن سيطرة العاطفة كيما لا تُدفع سيطرةُ العاطفة ولواحقها بسيطرة عاطفة أخرى، فحينئذٍ يتساقطان المنقود وما نقده، ولا تُستثمر الثَّمرة المرجوَّة، ولا يحصل المطلوب من الانتفاع بالنَّقد، إذ النَّقد حينئذٍ محتاج إلى نقدٍ؛ لأنَّه بُني على عاطفة مسيطرة سار نقد النَّاقد وِفاقها.
نموذج تطبيقيٌّ
دونك أيُّها القارئ الفطن مثالاً لعملٍ بحثيٍّ جادٍّ لمسألة حادَّةٍ، يسمه صاحبه بأنَّه جهد نصف قرنٍ، ويصفه أيضاً بالوثاقة والتَّأصيل والبعد عن المسارب العاطفيَّة والمسالك الانفعاليَّة، وعند محص النَّظر في البحث تستبين العاطفة شهيرةً في السَّيطرة عليه، وما إليها من خوارم التَّجرُّد ومكدِّرات البحثِ العلميِّ، ممَّا أدَّى إلى بروز الطَّرح غير العلميِّ فيه، والإدلاء بأحكام غير صحيحة ولا وثيقة، بل مخالفة للحقائق ومجانبة للصَّواب، وبان ذلك عنده في غير ما موضعٍ من البحث المعنيِّ المنمذج به.
وقد نشر هذا الباحث القدير والأستاذ الكبير بحثه هذا كتاباً أربت عدَّة صفحاته على (350) صفحة، وسأعرض منه شواهد على غلبة العاطفة وسيطرة الانفعال، وأحكام الارتجال، وأثرهما في اختيار الألفاظ والتَّراكيب، وكلُّ ذلك مجانب للعلميَّة، ووقوع ذلك لا يهدي إلى حقيقة ولا يثمر صواباً، بل يكون في الجَهد حدَّة في الطَّرح، وتشنُّج في القول، وانفعال في الحكم.
ولجعل القارئ على صورة بيِّنة من مضرب الشَّواهد أقول: هذا العمل عملٌ علميٌّ جادٌّ من أستاذٍ جامعيٍّ جادٍّ، وقد سعى في بحثه وأنهضه في معالجة قضيَّة جادَّة ذات إشكالٍ، هي من قضايا أصول الصَّنعة النَّحويَّة، إذ هو في معالجة قضيَّة الاحتجاج بالأحاديث النَّبويَّة في تقرير أحكام العربيَّة وضبط القواعد النَّحويَّة، ومؤلِّف هذا الكتاب كما قلتُ أكاديميٌّ جادٌّ، يحمل رتبة أستاذ دكتور (برفيسور)، وله طلَّاب في المرحلة الجامعيَّة، وكذلك له في مرحلة الدِّراسات العليا، إذ هو يرشد طلَّاب الدِّراسات العليا، ويشرف على رسائلهم، حاله كحال أيِّ أستاذٍ جامعيٍّ.
والمنبغَى من الخبير الكبير ومن حاله كذا، ويرجَّى من أمثاله أن يكون طرحه فيما يطرحه أو يكتبه أو يصنِّفه وهو في هذا السِّنِّ وفي مسائل ذات قدر، أن يكون طرحه طرحاً علميّاً بعيداً عن مشارب العاطفة والتَّشنُّجات الانفعاليَّة.
وليكون العمل علميّاً لا بدَّ أن يكون بحثاً؛ لأنَّه بالبحث يتوصَّل إلى الحقيقة، وهذا هو الغاية المرومة والطَّريقة المأمومة، ولا بدَّ أن يكون مؤصَّلاً وَفق قواعد منهجيَّة وضوابط علميَّة، ولا بدَّ أن يكون موثَّقاً بأدلَّته وحججه، عند ذلك تكون علميَّة البحث في أعلى بنيانها مجتمعة أركانها.
ولولا قيمة الكتاب وما فيه من جهدٍ لما استشهدتُ به؛ لأنَّ ما لا قيمة له لا قيمة لنقده، ولا ينقد إلَّا ما له قيمة، والكاتب أستاذ قدير جادٌّ، والكتاب يعدُّه مصنِّفه أفضل ما كُتب في هذه القضيَّة، ويصفه أنَّه جهد نصف قرنٍ، ووصفه أنَّه موثَّقٌ وعلميٌّ، فالتَّوثيق والتَّأصيل قيمتان عُلييان في البحث العلميِّ، كما أنَّه هو صُبابة القول عنده، وصفاء النَّظر لديه في المعالجة، ودقَّة الحكم في هذه القضية.
ومع حفظ القدر للكبير من أجل علمه وسِنَّه ذاك لا يمنع التَّصحيح والنَّقد نصحاً للحياة العلميَّة؛ إذ هي المقصودة، والمقصود من النَّقد المكتوب لا الكاتب، والنَّقد نافعٌ ومثمر، وله فضل على العلم وأهله، والنَّقد النَّافع المثمر شرطه العلميَّة، وخير أمره ما كان كما يقول أ.د. عبد العزيز البجاديِّ في مفتتح خاتمة بحث رائقٍ له ما نصُّه: «إنَّما يروم أولو الألباب بالنَّقد تقويماً للعلم، وتتميماً للفهم، واعتذاراً عن ذويه، وترحُّماً على قائليه» (ملامح اضطراب في «أوضح المسالك»). [متبوع]