حامد أحمد الشريف
عادة ما يكون الدخول لأيّ مخطوطة من عنوانها، تبعًا للمثل القائل: «المكتوب يُقرأ من عنوانه»، فالعناوين مفاتيح وعتبات مهمّة لا تُقرأ النصوص بدونها؛ ذلك ما استوقفني كثيرًا وأنا أتصفّح رواية «عازف القنبوس» للكاتبة السعوديّة المبدعة صباح فارسي، عندما تخطّيت القسم الأكبر منها دون أن أجد أيّ ذكر لهذه الآلة الموسيقيّة التي عَنونت بها روايتها، لا تصريحًا ولا حتّى تلميحًا، وإن وقعنا في حديث مبكّر على آلة وتريّة أخرى هي القيثارة الغربيّة؛ كان ذلك موضع استغرابٍ واستهجانٍ بالنسبة لي، أشغلني كثيرًا ودفعني لنقدها وإعابتها في ظلّ ما يجتاحنا غالبًا كقرّاء من رغبةٍ في البحث عن المثالب والعزوف عن الفضائل. ولأنّني دائمًا أشرع في الحديث عن أيِّ كتاب انطلاقًا من عنوانه تساءلت عمّا عساني أقول وقد أوشكت على الانتهاء منه دون أن يرِدَ ذكر هذه الآلة القديمة التي زيّنت رسمتُها الغلاف، بحيث بدت محاطةً بنغمات وطيور وقد ارتكزت على أديمٍ أخضر يحثُّ على الاستفاضة في الحديث عنها لو أنّها وُظِّفت في السرد.
بقي هذا حالي إلى أن وجدت الراوي العليم يشير إليها في الصفحة 224 وقد أوشكت على الانتهاء من العمل الذي يقع في 242 صفحة من القطع الصغير، ولم تكن إشارة ذات قيمة، إنّما مجرّدُ تلميحٍ إلى أنّ «مار» أحضرها معه من قرية «الرّها» إلى قرية «الهجير» حيث تسكن حبيبته «صبرة»، وأخذ يتسلّى بها عوض قيثارته التي فقدها من ضمن ما فقده عند تحطّم سفينته. ولعلّ ذلك الأمر أثار حفيظتي أكثر، إذ بعد كلِّ هذا العناء يأتي حضورها باهتًا على هذا النحو!
كنت أتسأل بحنقٍ ظاهر لِمَ قرّرَت الكاتبة تشريفَ هذه الآلة وتخصيصها بالعنوان وصورة الكتاب؟! ولعلّ مصدر استغرابي هو أنّ الجمال الذي شعرت به في ثنايا السرد لا يليق به مثل هذه السقطة غير المبرَّرة! ولم يكن خبر تكسير آلة القنبوس في الرواية، وتقطيع أوتارها، بالحدث المهم بالنسبة لي، بل لعلّه وافق شيئًا في نفسي، إذ كنت حانقًا بدوري على هذه الآلة التي بوِّئَت مكانًا اعتبرتها لا تستحقّه، وأظنّني كنت لأفعل بها ما فعله أهل «الهجير» لو مضى الأمر على هذا النحو ولم تَرفِق بي الكاتبة وتستعيدني مرّة أخرى وهي توقفني في الصفحة 216 على مرادها العميق من العنوان ولوحة الغلاف، عند مقارنتها سكّان القرية بسكّان مدينة فالنسيا الإسبانيّة، على لسان «مار» حين قال: «أما هنا فأنتم تخافون المطر، تهرعون إلى البيوت وكأنها ستحط بعذاب على رؤوسكم، طرقاتكم مرعبة، يسكنها الخوف، أزقتكم موحشة ساكنة يسكنها توجس من الآخرين، فقراء أنتم من الحب.. تعادون الموسيقى، لا أحد هنا يعزف، تتخذون الموسيقى خطيئة، والرقص جريمة، حبيسون خلف قضبان جدران الهجير، والمضحك أنكم تستعذبون السجن وتأبون الخروج منه، وكأنما حكمتم على أرواحكم بالموت فيها وأنتم أحياء»!
كان في كلماته ما يشير إلى مغزى العنوان وصورة الغلاف، حيث تحدّث بصراحة عن الحياة البائسة التي كان يعيشها أهل القرى - وربما لا يزالون - في استعذابهم الحزن والشقاء، وصراعهم حول استجلابه والدفاع عنه، فكان في حضور عازف القنبوس ورمزيّته المبهجة ما بدّد غموض السرديّة التي اتّخذت من هذه المفارقة خطًّا دراميًّا متّصلًا، بدأته بالمرور على حياة «صبرة» منذ طفولتها، والمرارة التي عاشتها مع والدها وزوجها السكّير وأبناء قريتها، مقارنة بالحالة المثاليّة التي كان يعيشها «مار» في فالنسيا، واجتماعهما في ما بعد في قرية «الهجير»، بما يمثّله الشاب الإسباني البهيّ الطلعة من سعادة وفرح، وما يكتنف حياة «صبرة» القرويّة من بؤس وشقاء لم ينقطعا حتّى وصولنا إلى اللحظة الفارقة والمهمّة، لحظة تحطيم آلة القنبوس؛ كان في ذلك إشارة صريحة إلى أنّ هذه الأرض لم يكن لينصلح حالها إلّا بالهجرة منها، وهو القرار الذي اتّخذه «مار» عندما أعيته الحيلة ولم يستطع رغم جهده المضني تغيير حال أهل القرية والتعايش معهم، متأمّلًا أن تشاركه «صبرة» هذا القرار، إذ لم يكن هناك ما يربطها بالقرية سوى مثاليّات زائفة لا تُسمن ولا تغني من جوع، ليفاجأ بقرارها غير المتوقَّع عندما لم تستطع التخلّص من انتمائها إلى الأرض بكلّ ما تحتويه من عادات وتقاليد وسلوكيّات أضرّت بها قبل أن تضرَّ بغيرها.
خلاصة القول، إنّ هذه السرديّة تكشف لنا في عمقها المثري أنّنا دائمًا ما نكون سبب المصائب التي تحطُّ على رؤوسنا، جرّاء سلبيّاتنا وخضوعنا غير المبرَّر. والأدهى والأمرّ من ذلك إسهامُنا بشكل مباشر في اشتعالها وتفاقمها، بالتناقضات التي نعيشها والأدوار الغريبة التي نُجيد لعبها ضدَّ مصالحنا. لقد جسّدت هذه السرديّة الجنون اللامنطقي بإسهام المرأة في عمليّة هضم حقوقها والنيل منها، من خلال انحياز ِها الذكوريّ العجيب الذي تمارسه ضدّ بنات جنسها، ونهوضها بدور لا يمكن فهمه للنيل منهنّ، وتقزيمهنّ، واضطهادهنّ، وهو للحقّ أمر شائع، وربّما موجود في معظم المجتمعات، حتّى الحضريّة منها، فالنساء أكثر قسوة على بعضهنّ، ويشكّلن غالبًا عائقًا في طريق سعي باقي النساء لنيل حقوقهنّ؛ ظهر ذلك في اضطهاد العمّة وأخت الزوج وباقي نساء القرية لـ»صبرة»، وتحريضهنَّ عليها، لا لشيء إلّا لأنّها أنثى، في وقت كنّ يصطففن مع الذكور ويُعلين من شأنهم!
نستنتج ممّا سبق أنّ قرية «الهجير» - بكلّ سلبيّاتها - يمكن أن نجدها متجسّدة في صراعنا الداخلي مع أنفسنا، عندما نعجز عن اتّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، أو في تفاعلنا مع محيطنا الخارجيّ بسلبيّتنا المقيتة، سواء أكان ذلك في قرية كهذه أو في أيّ مجتمع مهما بلغَ تمدُّنه؛ فالفكرة التي قامت عليها السرديّة لا تقتصر على مجتمع قرية أو مدينة بعينها، وإنّما تمتدّ لتشملَ كلّ المجتمعات التي تتميّز بالمواصفات نفسها، وخلاصُنا يكون في إدراكنا أنّ السعادة الحقيقيّة، والحرّيّة والانعتاق من العبوديّة، وباقي المعاني الجميلة التي أوقفتنا عليها رواية «عازف القنبوس»، ترتبط بقراراتنا نحن، ولا علاقة لها بالآخرين، وأنّ ربطها بغيرنا إنّما هو حيلة نحتالها لتبرير ضعفنا أمام قرارات بهذه القيمة.
عندما أدركت ذلك كلّه أصبحَت لوحة الغلاف، وكذلك العنوان، بوّابة حقيقيّة يمكن قراءة العمل من خلالها، ولم تعد خافية القيمة التي تمثّلها هذه السرديّة على مستوى عمقها الإثرائي، ولعبها دورًا محوريًّا في بيان أسباب التعاسة التي تعيشها بعض المجتمعات رغم مقوّمات السعادة المحيطة بها؛ كما بدأتُ أقدّرُ الراوي العليم الذي ناله منّي ما ناله في البداية عندما شعرت أنّ وجوده لم يكن مبرَّرًا، في ظلّ الحضور اللافت لـ»صبرة» و»مار» في مجمل العمل، وقدرتهما على استلام زمام السرد بضمير المتكلم؛ وكنت أظنّ ذلك سيمنح العمل قيمة كبيرة، لما لهذا الضمير من قدرة على تعمُّق النفس البشريّة، والاستفاضة في حديث المشاعر الكفيلة بربط المتلقّي بالعمل، واستبقائه حتّى النهاية، لا سيّما أنّ الحكاية في شكلها الظاهريّ عاطفيّة، ترسم العلاقة بين البطلين بكلّ أبعادها: المكانيّة والزمانيّة والسلوكيّة. لكنَّ كلَّ ذلك تبدّد عندما وعيت الرسالة العميقة التي أرادها النصّ؛ وقتها أصبح الراوي العليم في تقديري أقدر على النهوض بالمهمّة، بل لعلّه كان علامة فارقة ميّزت هذا العمل عن غيره، فهو كان جذلًا في حديثه، واصفًا بارعًا في سرده غير متكلِّف، أعطى المواقف والحوارات ما تستحقُّه من مفردات دون تقتير أو إسهاب، مستخدمًا لغةً شاعريّة وأسلوبًا سلسًا جميلًا، فالكتابة - للحقّ - على بساطتها، كانت أكثر ما ميَّز هذا العمل، وليس أدلّ على ذلك من قول الراوي العليم في أحد المواضع: «ولكن الحزن شبح غيور يطوف بالبيوت، يسترق السمع، يتلصص على النوافذ، يتحين الفرص ليدخل، ليتخذ له مقعدًا، في كل دار يزوره، وعائلة «مار» سيكون لها نصيب من الحزن طال الزمان أم قصر».
لعلّي أختم بالقول، إنّ الروايات العاطفيّة لا تشكِّل قيمة سرديّة كبيرة في الوقت الراهن، لابتذالها وكثرتها وتشابه مضامينها، وهي أكثر ما تختطّه الحكايات كأفكار سرديّة على مرّ العصور، لذلك يظهر أنّ اتّخاذها محورًا رئيسًا للعمل يُعَدُّ مجازفة غير مأمونة العواقب. ولكن، رغم ذلك، استطاعت صباح فارسي أن تجتاز هذا المنعطف، ويقدِّم لنا عملًا رومانسيًّا جيّدًا يمكن قبوله بشكله السطحيّ دون الذهاب باتّجاه المعاني الخفيّة التي قد لا يصل إليها كلّ القراء، ما يجعلنا نقولها صراحة، إنّ القواعد والأسس المتعلّقة بالأجناس الأدبيّة ليست قطعيّة، ويمكن اختراقها بسهولة عندما يكون لدينا مبدعين منتمين لصنعتهم، يدركون أبعادها الحقيقيّة، ويجتهدون في تقديم أعمال جميلة كـ«عازف القنبوس».