د.فهيد بن رباح الرباح
[تابع لسابق]
هذه شواهد من البحث المذكور آنفاً، أذكر ممَّا فيه شواهدَ تمثيلاً على ما ظهر فيه من الانزياح والحيدة عن خطِّ مسار البحث العلميِّ لسيطرة العاطفة، وغلبة الانفعال، أدَّيا إلى أحكام بالارتجال، واستعمال لألفاظٍ وتراكيب في غير مواضعها، ولا تخدم موضوع البحث، أو تأباها موضوعيَّة الطَّرح وعلميَّة البحث كأن تكون مثلاً ألفاظاً سوقيَّة أو شتائميَّة.
1- من شواهد الحيدة قول الباحث الكريم: «قد ترك النَّبيُّ الكريم لنا معاشر النُّحاة هديَّة عظيمة من كلامه المبارك ...، والمؤسف حقّاً أنَّنا لم نعطِ نحن أصحاب النَّحو هذه الهديَّة ما تستأهله من التَّقدير والإكرام، ولم نكن شاكرين لها بالقبول والتَّرحاب شُكْرَ إخواننا رجالات العلوم الإسلاميَّة.
فلقد وظَّف هؤلاء العلماء الأوفياء ...، في التَّنظير والاحتجاج والتَّطبيق، وجعلوها نبراساً لهم كلَّما مسَّتهم الحاجة إلى أنوار وضياء، أمَّا نحن النَّحويِّين فشغلنا عن هذه الأنوار المحمديَّة الفيَّاضة قروناً خالية، ثُمَّ انصرفنا إلى الجدال والخصام قروناً تالية، دون أن يقرَّ لنا قرار.
وبعد هذا كلِّه آن لما مضى من الانشغال والانصراف أن نضع أوزاره ويلقي عصاه وتستقرُّ به النَّوَى، ... ويدع السَّاحة النَّحويَّة لتروي ظمأها بالمقولات النَّبويَّة المعطاء، بعيداً عن كلِّ تهويش وضوضاء».
- قوله: «انصرفنا إلى الجدال والخصام» هو يريد بذلك النَّحويِّين خاصَّةً، وهذا غير صحيح، بل الخلاف كائنٌ في مسائل معتبرة، وليس الأمر جدالاً ولدداً ولا تهويش ولا ضوضاء، وإن رام أمر الاختلاف في الاحتجاج بالحديث فليس ذلك وارداً عندهم طرحه ومناقشته إلَّا بعد ابن مالكٍ وأبي حيَّان، وأمرٌ آخر هو أنَّ وقوع الخلاف حاصل في جميع مسائل العلوم في أحكامها وأدلَّتها ووجوه الاستدلال عليها، ولا يقال فيها: إنَّها تهويش وضوضاء.
- وقوله: «آن لما مضى ...» هو ترديد لقوله السَّابق من ذكر خصام القرون ولا فائدة من تكراره سوى التَّكثُّر اللفظيُّ، وأحسب أنَّه من آثار الانفعال. ومنه استعذاب الإغراق في التَّركيب الكلاميِّ المكرور كالبكائيَّات: (يلقي عصاه/ تستقرُّ به النَّوى/ منصَّة الخطاب/ ضيفاً على صفحات التَّاريخ/ حبيس الماضي/ يقرأ للعظة والعبرة) كلُّ هذه التَّراكيب الكلاميَّة لا قيمة علميَّة لها في الموضوع المطروق، ومثلها (يريح لسانه/ يطوي ألويته/ يجمع شتات بنوده وفيالقه).
وخَتَمَ كلامه بكلام عاطفيٍّ وعظيٍّ هو قوله: «ويدع السَّاحة النَّحويَّة لتروي ظمأها بالمقولات النَّبويَّة المعطاء»، وفي قوله هذا وقفات، منها قوله: «السَّاحة النَّحويَّة» لا داعي لهذا التَّركيب الوصفيِّ إذ يغني عنه (النَّحو، أو علم النَّحو)، كذلك قوله: «المقولات النَّبويَّة» غير مناسب ولا لائق، ويغني عنه (الأحاديث النَّبويَّة)؛ فهي أحاديث شريفة لا مقولات.
وختام الفقرة قوله: «بعيداً عن كلِّ تهويش وضوضاء» جاءت فيه ألفاظ (تهويش ضوضاء خصام)، وهي ألفاظ ليست علميَّة، بل دافعها الانفعال العاطفيُّ، ومثل هذا الكلام لا مكان له في البحث العلميِّ.
أقول: إذا وقع خلاف في مسألةٍ ما فلا يقال للمخالف إنَّ مخالفته تهويش وضوضاء، خصوصاً إذا كان المخالف من أهل العلم المعتبرين المبرِّزين، على أنَّه يمكن -إذا كان الأمر ادَّعاء- قلب القول على قائله إذ هو حينئذٍ بلا دليل. والصَّحيح أنَّ هذه ليست كذلك، فهي مسألة خلافيَّة، فيها ثلاثة مذاهب، ولكلِّ مذهبٍ منها حجَّة.
2-ومن شواهد الحيدة قول الباحث الكريم: «كنَّا في العقود الخالية نتداول الحوار في هذا الموضوع ناقدين أو مؤيِّدين أو مدافعين مسفِّهين، وما تيسَّر للسان والقلم والجنان فضُّ الخلاف ونزع فتائل الخصام، ولذلك أصبح من الحكمة أن يتسلَّم الفكر الحصيف زمام المبادرة، ويرسم شكل الحقيقة الخالصة من ألوان الشُّبه والأراجيف».
أيُّها القارئ الفطن؛ دع عنك نون الجمع أأراد بها نفسه أم معه غيره؟ وكذا جمع السَّلامة: (مؤيدين/ مدافعين/ مسفِّهين/ ناقدين)، وانظر قوله: «فضُّ الخلاف وفتائل الخصام» هذه اصطلاحات أحسب أنَّها غير مناسبة في مناقشة موضوع علميٍّ، وهذه تراكيب المراد بها -فيما يظهر- الإثارة، وهي إلى الانفعال أقرب، وإلى الاندفاع تُنسب، إذ الخلاف يناقش لا يفضُّ، والفضُّ للتَّشاجر والتَّصارع.
-ومنه قوله: «يرسم أشكال الحقيقة الخالصة من ألوان الشُّبه والأراجيف» أي: أنَّ الحقيقة الخالصة غائبة، وهذا غير صحيح، بل الحقيقة بيَّنة، والإضافة في (أشكال الحقيقة) لا معنى لها، فالحقيقة حقيقة؛ أي: واحدة لا شكول، إذن هي لا تتشكَّل بأشكال ليصبح من الحكمة تشكيل لها ورسوم، ثُمَّ خَتَمَ بقوله «ألوان الشُّبه والأراجيف» هي حُجج لا أراجيف ولا شبهٍ ملوَّنة، والألفاظ الشَّتائميَّة وما يوحي إليها مستهجنة تنزَّه عنها البحوث الأكاديميَّة والكتب العلميُّة.
3- ومن الشَّواهد: قول الباحث: «خمسون سنة مضت علينا، ونحن نقرأ ونسمع المهاترات بين رجال النَّحو في ظلِّ الأحاديث المطهَّرة تأخذنا الأمواج يمنة ويسرة، فلا نجد لحظة هداية واستقرار، ...».
في هذا الكلام عاطفة انفعاليَّة: «نسمع المهاترات بين رجال النَّحو ...» هذه الألفاظ يحسن تطهير البحث منها لأنَّها ألفاظ شتم لا بحث، وفوق ذلك في هذا الكلام استبهام، ولو ذكر أنَّ النَّحويِّين وقع فيما بينهم خلاف في الاحتجاج بالحديث، لكفاه من ذكر (مهاترات) و(رجال النَّحو) و(ظلِّ الأحاديث).
- وقوله: «من جنود الدَّرس النَّحويِّ» وقبله قال: «لا نجد لحظة هداية واستقرار» وقوله: «التَّقلُّب بين شقاشق اللسان وتراشق الاتِّهام»=كلُّ هذه التَّراكيب ليست بذات قيمة في البحث العلميِّ، ولا تخدم موضوع البحث، وهي تهويلات لا تدليلات، وغيرها خير منها فمثلاً بدلاً من (رجالات العلوم الإسلاميَّة)، و(جنود الدَّرس النَّحويِّ) يقال: العلماء أو علماء الشَّريعة، وطلاب علم النَّحو أو طلاب الدِّراسات العليا في النَّحو.
ومن ذلك قوله: «... في هذه المعامع المصطنعة المتهافتة» هذه الألفاظ هي ذمٌّ لا مناقشة علميَّة، وهي من آثار الانفعال.
- وقوله: «ما بنيت عليه من الأوهام» هنا حكم على حجج المانعين قبل مناقشتها، وهذا أمر خارج عن الموضوعيَّة وحيدة في البحث العلميِّ، وهو دليل التَّحيُّز والميل والتَّسبيق بالنَّتيجة، وكلُّ هذا منافٍ للبحث العلميِّ.
- وقوله عن نفسه: «بعد مشقَّة التَّجوال والتَّتبُّع والتَّقلُّب نصف قرنٍ في متاهاتٍ الخلاف» كلُّ هذا التَّطويل لا داعي له، وحقيقته أن لا مشقَّةَ وقد حسم الأمر من قبلُ، وقد كان الباحث من المانعين قناعةً أو اتِّباعاً، ثُمَّ أصبح من المجوِّزين، فهو قد تقلَّب بين مذهبين، وهذا يحدث عند كثيرين ولا مشكلة.
وأفترض ههنا فرضاً: هل يرضى الباحث الكريم أن يقال عنه: إنَّه كان مهاتراً معانداً متسفِّهاً مفتئتاً عند ما كان مانعاً؟ وبعد تقلُّبه أراد الانتصار لما انحرف إليه، والصَّدَّ عمَّا انجرف عنه؛ فصنع هذا البحث مندفعاً، لذا سيطرة العاطفة والارتجال عليه، فهو يصول بها ولا يناقش.
- قوله: «تسدُّ منافذ المرجفين المعاندين، وتفتح صفحةً جديدةً في تاريخ الدَّرس النَّحويِّ تملأ الفراغ الكبير الَّذي خلَّفه الاشتباه والتَّوهم والافتئات» في هذا النَّصِّ طعن بالمخالفين وهم المانعون، ووصفهم بالإرجاف والعناد هذا اندفاع انفعاليٌّ، ثُمَّ وصمهم بتخليف التَّوُّهم والاشتباه والافتئات، وكلُّ ذلك غير حَسَنٍ ولا وارد في المناقشة العلميَّة إذ هو من آثار الانفعال.
- وقوله: «تملأ الفراغ» هي أصلاً فيها ثلاثة مذاهب، ولا ثَمَّ فراغ، هم المجوِّزون، والمانعون، والمتوسِّطون، فأين الفراغ الَّذي تملؤه؟ والباحث عينُه كان من المانعين، ثُمَّ انخزل عنهم، وأخذ برأي المجوِّزين.
- وقوله: «منازع عاطفيَّة شخصيَّة» ليس صحيحاً أنَّ المانعين منعوا ذلك لعاطفة شخصيَّة، بل هذا طعنٌ فيهم من الباحث بمنزع انفعاليٍّ، فهو يطعن فيهم انفعالاً ظانّاً أنَّه ينتصر للحديث، وأنَّ مانعِي الاحتجاج يهاجمون الحديث لأنَّه حديث رسول الله حاشاهم، وهذا غير صحيحٍ بالنَّظر لواقع حالهم ونصِّ مقالهم، وأمر آخر أكان الأستاذ القدير موصوفاً بهذه الصِّفات حينما كان يأخذ برأي المانعين ويقول بقولهم!
- ومثله قوله: «مرتكزات العواطف والخيال» كسابقه، وممَّا يلاحظ هنا هذه التَّراكيب الإضافيَّة: (منازع عاطفيَّة/ مرتكزات العواطف) وهي لا قيمة ظاهرة لها، بل هو من تكثير اللفظ وتكبيره بالتَّراكيب، وإلاَّ فـ(منازع العاطفة) هي (مرتكزات العواطف)، وفي الأمر ملمح نفسانيٌّ: إذ مَن كان واقعاً في أمر معيبٍ ثُمَّ تركه، تجده يكثر من ذمِّه تنزُّهاً، وتجميلَ ذاتٍ ظاهريّاً، وتطهيراً لها داخليّاً. [متبوع]