وصف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الحداثة العلمية والتقنية بأنها من نزعت السحر عن العالم Diesnchantment وهو مفهوم استمده من الشاعر ماكس شيلر، وهي شرعة حسنة قام بها فيبر حين وظف الإبداع الأدبي في الحقل العلمي. إن نزع السحر عن العالم وإن كان بنية التطور والتقدم والتنمية الاقتصادية إلا أنه ورث لدى المجتمعات حساً جديداً تولدت منه النزعات العلموية والجفاف العقلي والتخلي عن الروحانيات المشتركة التي تعايشت مع الإنسان طيلة تاريخ أوروبا القديم.
لم يتوقف نزع السحر عن العالم عند هذا الحد أي في زمن فيبر مطلع القرن العشرين، لكن استمرت العجلة بالدوران وباتت تنال من الهوية الحساسة للمجتمع والعائلة وأضحى التوغل المادي خارج السيطرة تماماً. ولو عدنا إلى مفهوم السحر الذي قصده فيبر لوجدناه مرتبطاً بالغموض الذي ينهل منه الإنسان في معيشته وذكائه وحيويته النشطة. وليس السحر بمعناه المذموم المرتبط بالشعوذة والدجل.
تكمن ضرورة الغموض للإنسان أنه المقابل للجلاء، ولو افترضنا أن كل شيء بات واضحاً ولا يحتاج منا التأمل والتفكير لوجدنا أنفسنا في العراء ولعل هذا ما يحدث حالياً، حيث النزعات الوثوقية والدوغمائية تنتشر لدى المتعلم والعامي جراء الثقة الزائفة بمعرفة كل أمر، ولا يقتصر ذلك على الجانب المعرفي إذ يتعداه نحو الجانب النفسي حيث تنعكس هذه الثقة المفرطة التي تسببت بها العلموية Scienticism على نفوس الناس، ويختفي الاحتفاء بالغموض لديهم؛ مع أن الغموض هو دوماً مصدر الإلهام والتأمل والبحث في أعماقنا الداخلية, فلطالما تأمل الأنبياء والحكماء في الكهوف متوجين بممالك الصمت.
بجانب ما ذكرته عن الغموض فإني أجده بمثابة الصندوق الواسع والممتلئ بالألغاز والأفكار والخطرات المدهشة. وما من ريب أن تقلص مساحات الغموض أدى لضمور ملكة التأمل لدى الإنسان والانصراف عن القراءة المثرية في الآداب والفنون والفلسفات، والانشغال بالتافه من القضايا والأخبار، إنهم لا يجدون غموضاً من حولهم ولا يسترعي انتباههم إلا الشائعات والمستجدات البراقة. لهذا أدعو لاستعادة (الغموض) والتفكر في عجائب الكون والوجود من خلاله.
والغموض هو مسافة شاسعة نقطعها على الدوام دون أن نصل وجهتنا المقصودة ويكفينا فحسب شرف السلوك في هذا الطريق، والسبب أن الشروع في درب الغموض يختلف عن الطرق المعتادة حيث تحقيق المستهدفات والالتصاق بروتين الحياة اليومية البليدة، أما الغموض فهو الطريق والغاية معاً، وهو الدهشة الدائمة حين تتوافق مع اليقين بقدرة الإنسان على الخلق والإبداع والنهوض.
يكفي الإنسان أن يقول (لا أعلم) بشأن ما يجهله، لكن في الحالة العلموية والتقنية المتطرفة لا يسود هذا الاعتقاد فالإنسان لديهم يستمر في اجتياح العالم بلا توقف فلا شيء أمامه لا يعرفه، ولا أسرار تثير فضوله، إنه من صنع الوحش فرانكشتاين وانتهى به المطاف أن يقتل صانعه، ولربما هذا ما نراقبه الآن من صراعات عسكرية فتاكة اختفت فيها البطولة والفروسية وتسيدت فيها آلة القتل العمياء. لعل قليلاً من الصمت كاف لإدراك ما يحيط بنا من مثالب وسيئات، وكثيراً من الإيمان بالغموض نحتاجه كي نملأ وقتنا من جديد بالمدهش والثر من الأفكار والآمال والأمنيات.
** **
- طريف بن عيد السليطي