الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
حث الإسلام على الزواج ورغب فيه، وأكد على الوسائل والأسباب التي تعين على تحقيق مقاصده وحكمه، ورسولنا عليه الصلاة والسلام في وصيته المشهورة للشباب: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء».
وفي الآونة الأخيرة سجلت الإحصاءات عزوف من الشباب والفتيات عن الزواج حتى أصبحت تمثل ظاهرة في المجتمع، وتعددت الأسباب وتنوعت.
«الجزيرة» التقت بمجموعة من الأكاديميات والمهتمات في الشأن الاجتماعي والأسري بمختلف التخصصات ليسهمن في تقديم الحلول العلاجية لتلك المشكلة، وتحفز إلى تسهيل أمور الزواج في المجتمع.
الميثاق الغليظ
تقول الدكتورة أسماء بنت صالح العمرو: يؤلمني جدا عزوف الشباب (بجنسيه) عن الزواج، وعدم تفكير بعضهم حتى في الحديث عنه، وقد قرأت كثيراً عن هذا الموضوع الذي قد كثر حبره، وزاد خبره، ولكن ما يعنينا هو كيفية العلاج، وسبل نجاحه لمجتمع متآلف، يحب الخير لأخيه كما يحبه لنفسه، وأختصرها بما هو آت: لا بد أن نرى بعين الاعتبار غلاء المهور، وتكاليف الزواج، وتيسير ذلك من قبل الأهالي، إن لم أقل تقنينها، فالمسألة ليست بيعاً وشراء، وإنما هي ميثاق غليظ شرعه الله لحياة مستقبلية مستقرة وهانئة، فعلى كل مؤثر في وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى كل جمعية تهتم بأمور الزواج أن تقوم بين فينة وأخرى بحملات توعوية تنشر فيها ثقافة تيسير المهور، والترغيب فيه قبل أن يصل إلى عمر يصعب عليه تقبل حياة جديدة، وعيشة لم يعهدها من قبل، ويمكن للشركات والمؤسسات ومحلات الأثاث والأواني المنزلية، دعم الشباب، وتوفير بطاقات تخفيض؛ تسهل لديهم أمور الحياة الأسرية، وخاصة في السنوات الزوجية الأولى، وتجريم العبارات والألفاظ التي تثير الفتن بين الشباب، وتهوّن من شأن الجنس الآخر، وتفتعل المشكلات، وتثير التوافه، وتُسفّه، وتُذل، وتِستصغر، فكما يتردد بين بعضهم (أبو سروال وفنيلة، وأم ركب سوداء...)، والتجريم كما هو معلوم له عقوبات تخصه بسبب عظيم إثمه، وسوء قوله، ولا يفوتني أيضاً الأخذ على يد السفهاء، وإبطال أفكارهم السامة التي يدسونها في مجتمعنا الفاضل، ومعاقبة كل من ينشر فكراً شاذاً، أو يهوّن من الزواج، وينفّر منه، كما أن على شبابنا أن يعي بأن حياة الزوجية ليست رفاهية عيش، ومتع أيام، وأحلاماً سعيدة، بل الزواج عقد رفيع عزيز، رضي بعضهما ببعض، فكان بينهما المودة والرحمة، فعليهما أن يجتمعا على الاقتناع والقبول والتفاهم، ثم لا يمكن للزوج أن يقيس امرأة تلتقطها شاشات الفلاتر، وعُشاق الأموال بلُب فؤاده، وبلسم حياته التي جرتها طبيعتها إلى صدق الفعال، وجميل الصورة النقية، والستر والعفاف، ولا يمكن للمرأة أن تتخيله مثل البطل الذي في المسلسلات الحالمة، أو ترجو ماله الذي تدس حلمها فيه فتأخذ منه كل ما تهواه نفسها، وتنسى العهد الذي شُرع بينهما، أو أنه كما المشاهير الذين يصدّرون كل كذبة على أنها إيجابية بكلام مصطنع، وهو من خلف الشاشة مثله كمثل غيره قد ينقص ولا يزيد، وقد يكون أردى من الرديء، ومغفل لا يستطاب العيش معه.
تغيرات سريعة
وتسترسل الدكتورة أسماء العمرو في حديثها قائلة: إن التغيرات السريعة التي حصلت في بنات مجتمعنا بحيث أصبحت لا تتحمل المسؤولية، ولا تستقبل أي نصح، ولا تقيم طاعة، ولا تصغي لحديث، فأول مشادة بينهما تسارع بطلب الطلاق، أو الخلع، في حين يتطلب عليها كأم ومتعلمة أن تكون أكثر حكمة، وأشد صبرا، وأوسع بالاً؛ لما لها من صفات تفوق الرجل بتحمل الصعاب، ومجابهة الأمور (عند وقوع الخلل) فلا يحتاج الأمر إلا كل هدوء وحنكة وبعد نظر، وبعض كلمات هادئات، وشيء من التغافل والتغاضي في الأمور الهيّنات، فلا تنشر سراً، ولا تقيم فوضى، ولا تفضح حياتها بين القاصي والداني، حتى لا توسع الخرق على الراقع، ولا توهم الباطل عن الحق، ولا تصعّد الأمور دون تهدئتها، مشددة على أن الذي يساعد على ذلك هو الاهتمام بالدورات التي تنمي لديها هذا الحس الشعوري النبيل، سواء بحضورها تلك الدورات، أو بضغطة زر عن طريق الجوال، وسماع كل ما يهمها ليرتقي بفكرها، ويعينها على خوض حياتها بكل حب وتفاهم، فتُعلّم الجميع أنها هي تلك المرأة المربية الحنون التي تجمع ولا تفرق، وتصفح ولا تُجرّم، وتخضع ولا تتعالى، وتتودد ولا تجفو، كما أن التفكر والتؤدة والرجاحة والحلم وحسن التصرف من صفات الرجولة وذوي القوامة وأصحاب الإدارة؛ حتى ينعم هو ومن تحت يديه بحياة طيبة كريمة، ويحبب لأهله وأبنائه ملاحة الحياة الزوجية وبهجتها، واللبيب بالإشارة يفهم.
حياة الأقدمين
وتتأسف الدكتورة عزيزة بنت عبدالله البطي على هذا العزوف الذي لا يطول الأسرة فقط، بل أيضا المجتمع ككل، ولو ذكرت لكم البون الشاسع بين حياة الأقدمين الذي لا يكلفهم الزواج كما هو الآن، فمجرد دخول امرأة في بيت الزوجية (أو بمعنى أصح بيت أهل الزوج) فلا تعتبر أجنبية عنهم، أو ضيفة عليهم، بل تنخرط معهم وتكون منهم وتخدمهم وتعيش عيشتهم، على خلاف هذا الزمن الذي يحتاج إلى استعداد نفسي وفكري ومالي حتى تسير الأمور على وجهتها الصحيحة؛ فالمرأة (في الغالب الأعم) لا يعنيها الرجل كزوج تكون بينهما الألفة، وتكوين الأسرة المستقرة، والذرية الطيبة، بل همها هو (البزنس) و(السياحة الداخلية والخارجية) متى تشاء، وبدون قيد ولا شرط، وعليه نرجع إلى الزوج الذي يخشى من تلك المعضلة، وحين يقع الطلاق، يضرب أخماساً بأسداس عن إعادة هذه التجربة المريرة (بالنسبة له)، ولا بد أن يعي الرجل والمرأة بالمسؤولية التي حملاها، فقد وصلا إلى مرحلة عمرية يحق عليهما أن يقفا وقفة حكيم حازم، وأن هذه الحياة لا بد فيها من حياة أسرية ينظران لها بعين فصيحة، وعقل مدبر، رجل يبحث عن امرأة تعينه على حياته التي أمر الله بها، وزوجة تدخل في بيته فتنثر عليه الحياة الهانئة والبيت السعيد، والسكن الهادئ، ثم على الوالدين توجيه أبنائهما إلى معنى الزواج بالمفهوم الحقيقي لا بمفهومهما المادي البحت، أو العاطفي الصرف، فمهما كان من عواطف جياشة، ومادة طاغية، فيبقى الهدف الأسمى للزواج وهو تكوين أسرة مستقرة، مبتدأها السكن، ومنتهاها التربية والتهذيب والتثقيف؛ لينفع أهله في حياتهما وبعد مماتهما، وينفع وطنه، ومجتمعه.
وإن كان الأخير وهو المجتمع مسؤول عن هؤلاء الشباب الذي يجب عليه أن ينوّر طريقهم بالدورات الإيجابية، والمساعدات المادية والتثقيفية، ولا يرهقهم بالمهور العالية، ولا يملأ عقولهم بأن الزواج هو مادة فقط، وغيرها هي أمور ثانوية لا تقدم ولا تؤخر؛ فالشاب، وأهله، ومجتمعه، عليهم أن يعرفوا أن الحياة قيمتها بما شرع الله.
وقفة مع الشباب
وترى الدكتورة هدى بنت محمد الغفيص أنه من دواعي المسؤولية المجتمعية تسليط الضوء على هذه القضية المهمة التي لن يجني المجتمع من تجاهلها إلا مزيد اتساع لرقعة المشكلة وتوغل في دهاليزها ولكن أنا سأقف مع الشباب وقفة تأمل، وأرجو أن تطرق أحرفي هذه العقول قبل حدقات العيون.
عزيزي الشاب عزيزتي الشابة كرماً لنصحح نظرتنا تجاه الغاية من الزواج فمتى سمت الغاية سنجند إمكاناتنا وبكل الوسائل الموصلة لتحقيقها فزواجكم موافقة لسُنَّة الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين كما أنه حوى إلى جوار هذا:
1- استحضار الأمر النبوي حيث قال صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع؛ فعليه بالصوم، فإنه له وجاء».
تعبد الله جل وعلا بالزواج كونه عبادة وطريقًا إلى جمع الحسنات والصدقات؛ متى كان الزواج امتثالاً لأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتأسِّي به حيث قال صلى الله عليه وسلم: «وفي بُضْع أحدكم صدقة» من حديث أخرجه مسلم: ك: الزكاة، ب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، ح (1006) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولستَ تنفقُ نفقةً تبتَغي بها وَجْهَ الله إلَّا أجرتَ بها، حتى اللُّقْمة تجعلها في فيّ امرأتك» أخرجه البخاري: ك: المغازي، ب: حجة الوداع، ح (4409) ، ومسلم: ك: الوصية، ب: الوصية بالثلث، ح (1628).
2- استحضار أنكم بالزواج يولد لكم الولد الصالح الذي يكون امتدادًا لعملكم وحسناتكم بعد موتكم، بصلاحه ودعائه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عملُه إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالحٍ يدعو له» [أخرجه مسلم: ك: الوصية، ب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، ح (1631).
3- استحضار أن الزواج ليس عائقاً أمام طموحاتكم في مواصلة تعليمكم بل يساعد على الاستقرار النفسيِّ والاجتماعي، ويساعد على التقدُّم العملي والعلمي بتيسير الله تعالى، فقط نجدد النية، ونسأل الكريم من فضله.
تحمل المسؤولية
وتبين الأستاذة هند بنت إبراهيم السعوي الأمور التي تساعد على علاج عزوف الشباب عن الزواج، أو بالأحرى الوقاية من ذلك قبل وقوعه تتمثل في الآتي:
أولًا: تربية الأبناء على تحمّل المسؤولية منذ نعومة أظفارهم، واحترام أفراد الأسرة بعضهم لبعض، وسؤال الله العون والثبات والتوفيق بادئ ذي بدء.
ثانيًاً: ستر المنازعات بين الأزواج، ولا يجعلونها أمام أبنائهم؛ ليكونوا لهم شهودا أو محكمين؛ وذلك كي لا تكون سببًا في ذلك العزوف، أو يتسرب للنفس القول {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}، ولا أقوى من التربية بالقدوة.
ثالثًا: تثقيف الأبناء بأمر الزواج وبيان أنه أضخم وأسمى مشروع يقوم به الإنسان؛ لتثبيت الأمة الإسلامية، وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة دولة مشتركة بين اثنين يرعونها بكل ما أوتيا من قوة وعلمٍ يزكي القلوب ويثبتها على مصاعب الحياة.
أفكار بالية ودخيلة
وتؤكد الأستاذة ليلى بنت محمد المقبل: أن العزوف عن الزواج مشكلة تستدعي التأمل في أسبابها لاستنباط حلولها، ومسوغ ذلك كون مفاتيح المشكلات مرتبط شرطياً بجذورها، وحين نتجه بفكرنا نحو الجذور تتجلى لنا عدة أسباب تتسنمها التغيرات المجتمعية الطارئة في السنوات الأخيرة، حيث طغى التفكير (المادي) البحت، وظهرت هيمنته على الجيل من الجنسين، وهذا التوجه يخل بقاعدة (الرغبة والقدرة) التي تقتضي التوازن بين الممكن ونقيضه قياساً على مبدأ الاستطاعة، وحين نتأمل واقع الجيل مؤخراً يلفتنا خلل التوازن بشكل صارخ حد تحول الأمر إلى سباق المنتصر فيه محض خاسر وفق قول الشاعر:
بعض المعارك في خسرانها شرف
من عاد منتصراً من مثلها انهزما
وأوضحت ليلى المقبل أن الشباب لا ترضيهم أية وظيفة لدرجة تقبل العطالة، أما الفتيات فتحولن إلى (متطلبات) حد الهوس وتخطي دائرة المعقول.
ومن هنا فقدت نسبة كبيرة من الشباب (القدرة) على تخطي متطلبات الزواج وتبعاته، كما عزفت نسبة كبيرة من الفتيات عن الارتباط بسبب ارتفاع سقف متطلباتهن..، وهذا السبب يخص من يرغب وتعوقه القدرة فماذا عن الفئة العازفة رغم الاستطاعة..؟
وتضيف قائلة: هؤلاء بنظري ينقسمون إلى عدة أقسام فمنهم من لا يتحمل المسؤولية ولا يرغب في إثقال كاهله بغير ذاته، ومنهم المستغني بالحرام عن الحلال معاذ الله، ومنهم فئة منكفئة على ذاتها أسرياً يفتقدون التواصل الاجتماعي فلا تتاح لهم فرص الزواج كغيرهم ممن يخالطون ويتعارفون فيكتب الله لهم نصيبا بسعيهم، ولو أردنا تركيز الضوء على الحلول بعد تأمل الجذور لكان لزاما علينا (التوعية) بضرر الانسياق خلف التفكير المادي بتعزيز التوازن والنضج النفسي لفهم الحياة فهما عميقا يحمي من الانجراف فيها دون وعي، هذا الوعي كفيل بإعادة النظر في كثير من الأفكار البالية أو الدخيلة وتجاوزها بقرارات تصب في المصلحة الفردية والمجتمعية، كما أن هذا الوعي سيسهم أيضاً في خلق روح المسؤولية في الجنسين على حد سواء، وحين توجد المسؤولية ستوجد معها لزاماً أسباب التواصل والتعارف لخلق فرص زواج ناجح بإذن الله وفق قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، مختتمة القول: حين يكون للثقافة الشرعية حضور عميق يجعل من شرع الله منهج حياة يأطر ذويه على ما فيه صلاحهم وصلاح مجتمعهم سيستقيم كل شيء في الحياة بإذن الله.