د.فوزية أبو خالد
1
مع أنني في مقال الأسبوع الماضي قررتُ أن أنأى بنفسي عم أعرف لأكتب فيما أخال أنني أعرف فكتبت عن الشعر واكتفيتُ من الوقوف على افتتاح المونديال في دولة قطر الشقيقة بذكر أن حماسي وحبي للنشاط الرياضي العالمي وفرقه المختلفة ومتابعتي لمواسمها العالمية كالمونديال ليس ميولاً فطرياً مثل الأستاذة حصة العون رحمها الله ولكنه حالة مكتسبة وموسمية تأتي تحالفاً مع من يستهويهم الفن الكروي من الأبناء والأحفاد حباً لهم أكثر منه حباً للعبة الكرة نفسها وهو بالتالي ليس حباً بالأصالة عن نفسي بل بالأصالة عمن أحب.
إلا أن الفوز الذي أحرزه المنتخب السعودي في الأسبوع الأول من افتتاح مونديال 2022 على أرض الدوحة في لعبته الفريدة مع منتخب الأرجنتين المعروف بمهنيته الكروية المتقدمة في التاريخ العالمي الحديث للعبة الكرة وبطولاتها الدورية قد ولدت في نفسي تفاعلاً غير معهود فلم أشعر إلا وقد دب في عروقي ماء الشباب وشلالاته من جديد. وهذا مما حداني ألا أكتفي بانتظار موعد كتابة مقالي الأسبوعي هنا بجريدة الجزيرة لأتناول الموضوع بل تفرغتُ في جدولي المشحون بالكثير من المسؤوليات والمحاضرات ومواعيد تسليم عددٍ من الكتابات لمتابعة ردات الفعل غير العادية في عدد من مختلف طوفان وسائل التواصل ورصد مضامينها سواء جاءت بالصوت والصورة أو بالكلمة المكتوبة.
ليس هذا وحسب قمتُ أيضاً من خلال لجنة الثقافة والسياحة لمركز أسبار البحثي بتأييد مقترح د. زياد الدريس على اللجنة بإقامة ندوة أو تقديم محاضرة كقراءة ثقافية لمشاركة المملكة بالمونديال، بل توخياً لسرعة تناول الموضوع وتوسيع دائرة المشاركة فيه اقترحتُ على منسقة اللجنة د. عفاف أنس وأ. فهد الأحمري وبقية سرب الزملاء في اللجنة أن يقام اللقاء عبر منصة «مساحة بتويتر» . هذا بجانب كتابتي لعدد من التغريدات التي حاولت التعبير بها ليس فقط عن سعادتي البالغة بفوز منتخبنا الوطني السعودي أمام خصم عتيد عنيد في لعبة الكرة وبحضور ميسي البطل الأرجنتيني الذي يعتبر خليفة أيقونة الكرة العالمية ماردونا, بل أيضاً أشرتُ فيها لبعض دلالات هذا الفوز وطنياً على مستوى المجتمع السعودي وعلى مستوى التماهي بين الصورة والأصل في الحضور السعودي مجتمعاً وليس دولة وحسب في المشهد العالمي من خلال منتج الرياضة وليس منتج النفط فقط ومن خلال مجال من مجالات النشاط الإنساني المعاصر وهي رياضة كرة القدم وليس مجال السياسة والاقتصاد وحسب. ولم أنسَ وأنا في عنفوان زهوي بفوز منتخبنا الوطني على خصم متمكن أن أكتب كلمة حق أحسستُ بأمانة كتابتها بينتُ فيها بأن لعب المنتخب السعودي كان لعباً نزيهاً قادنا لفوز نزيه وبالتالي فإن علينا فيما نكتب أو نقول جماهير عربية وسعودية التحلي بالأخلاق الرياضية للفائزين وبالمكارم المتعارف عليها لحظة الانتصار بين الحلفاء المتخالفين، فما بالك بالمتآخين تحت مظلة التنافس الشريف.
* * *
2
بتناول المونديال في ميزان الحدث العالمي نجد أنه منصة كروية لنشاط رياضي توازي في أهميتها المنصات الدولية المعنية بالشأن الاقتصادي، السياسي، العسكري أو الأمني التي تجمع عادة الدول على اختلاف مواقعها الجغرافية وثقلها ودرجة تأثيرها وتأثرها في شبكة العلاقات الدولية وفي مسرح الأحداث العالمية. كما أن بينه وبين المنصات العالمية التي تقام في المجالات الأكاديمية والثقافية على مستوى دولي نقاط من التقارب على المستوى التمثيلي لشرائح مختصة من التكنوقراط والقوى الناعمة، غير أن مثل هذا النشاط الرياضي/ المونديال يتميز عن تلك المنصات الدولية ذات النشاطات الجافة كالسياسية والاقتصادية والأمنية أو حتى النشاطات ذات الطبيعة التقنية أو الفكرية، بأن لقاءاته لا تقتصر على تمثيل الدول أو فئات نخبوية بل تصير أرضية عالمية دورية نادرة لتجمع جماهيري واسع يمثل شعوب الدول المشاركة في الحدث الرياضي سواء عبر الحضور الجماهيري المتنوع أو عبر تنوع المنتخبات المشاركة. هذا بالإضافة لتميز منصة النشاط الرياضي /الكروي في مثالنا هذا بسقف معلن من المنافسة العلنية الشريفة التي تجري بشفافية كبيرة أمام النُظارة حية على الهواء سواء جرت متابعتها عبر الحضور في الملاعب لآلاف المشاهدين أو عبر الشاشات التي عادة يتابعها الملايين عبر قارات العالم أجمع. واللعب الكروي في مثال المونديال بهذا المفهوم يصبح منصة تعبيرية ليس عن الجانب الاحترافي من اللعب فقط ولكن بنفس الدرجة يصبح تعبيراً عن المجتمع وعن الدولة معاً وعن حالة ومكانة القوى الناعمة فيها التي تمثلها المنتخبات وعن منظومة القيم التي تحكم علاقة تلك القوى بدولها بقدر ماهي تعبير عن شبكة العلاقات الثقافية والسياسية التي تربط المجتمعات العالمية بعضها ببعض بما قد لا تظهر في العلاقات الرسمية بين الدول عادة.
وبوضع مشاركة منتخبنا السعودي في هذا الإطار التصوري نستطيع أن نفهم بعض الدلالات الاجتماعية والوطنية لنوعية مشاركة المملكة في هذا الحدث الرياضي ولذلك الفوز المنعش للمنتخب السعودي أمام منتخب الأرجنتين من ناحية وللروح المستبسلة التي لعب بها مع المنتخب السعودي مع المنتخب البولندي من الناحية الأخرى والتي وإن لم تنهِ فيها اللعبة بالفوز المنشود، فإن شباب منتخبنا لم يرتضِ فيها بأقل من هزيمة صعبة مشرفة لفرط مقاومته وبلائه الحسن لتفاديها .
3
دلالات المشاركة والفوز
1-حرص المملكة الواضح على الاستعداد المبكر لهذا الحدث الرياضي بمنتخب يعبر عن الروح الشبابية الجديدة التي تطرحها الدولة كعنوان للتحولات الجارية على المملكة وذلك من خلال توفير الإعداد والتدريب الاحترافي المنظم والسخي في جانب ورفع مستوى الحس الوطني بالولاء والانتماء وتعميقه في الجانب الآخر من خلال جعل القوى الشابة جزءاً يومياً من أطروحة التحولات وعنواناً لها.
2-الالتفات الواضح نحو تحدي أن تغيير الصورة عنا في الخارج مرتبطة بتغيير الأصل في الداخل وأن المنصات الرياضية مجال خصب لتعكس صورة المملكة العربية السعودية الفتية الجديدة بما لايقل أهمية عن منصات الفن والترفيه والفلكلور أو أي نشاطات ثقافية هنا وهناك كمعارض الكُتب الدولية والتشكيل البينالي ونحوه. ولهذا فقد نشطت وسائل التواصل الاجتماعي في تلقف كلمة ولي العهد التي وجهها للمنتخب بقوله للشباب، معنىً وليس نصاً «اذهبوا للعب واستمتعوا باللعب بدون ضغوط ولا توتر قد يؤثر حتى على أدائكم الطبيعي». كما نشطت محاولات قراءة هذه الكلمة. فممن رأى الكلمة سبباً هاماً من أسباب فوز المنتخب في مباراته الأولى لهذا المونديال بما منحته من ثقة وقوة معنوية للاعبين إلى من رأى فيها تعبيراً عن توجه نحو تبني قيم سياسية جديدة في تخاطب القيادة مع المجتمع وفي تثمينها لموقع القوى الشابة والقوى الناعمة في إنجاز رؤية المملكة لدولة معاصرة بمقايس الدول المتقدمة.
3-إذا كان من الطبيعي أن تابع العالم أجمع عبر كافة وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي والورقي ذلك الحس الوطني العالي الذي عبرت عنه المملكة قيادة ومجتمعاً بمختلف أطيافه وفئاته بفوز المنتخب السعودي وما أبداه الجميع من سعادة وزهو بذلك اللعب النزيه الذي قاد إلى ذلك الفوز المشرف، فإن المفاجأة للبعض كانت فيما أبداه الشارع العربي من الخليج للمحيط وفي مجتمعات العالم الإسلامي من فرح غامر وكأن فوز السعودية شكل فوزاً شخصياً لكل مواطن عربي مسلم، كما بدا الأمر وكأن الفوز السعودي شكل أيضاً رد اعتبار، على صعيد رياضي، لقيمة لحمة العروبة ولحمة الإسلام.
4-أما غير المتوقع في الحسبان العادي فهو ردة الفعل المرتبكة على فوز المنتخب السعودي أمام الأرجنتين التي عبرت عنها الصحافة الغربية والأمريكية. بما غطته بعناوين موحية مصادر هامة مثل الديلي مييل وسبورت تووك وسيدني مورنينج والتيليغراف الإنجليزية التي اعتبرت فوز منتخب سعودي على منتخب الأرجنتين إهانة وصدمة، وهناك كأحد المصادر الفرنسية من سمى الفوز المعجزة السعودية، صحيفة تي إن الأسبانية قالت تلقى فريق ليونيل ميسي ضربة قاسية قد تكسر رقمه القياسي في الفوز، شبكة البي بي سي قالت فوز المنتخب السعودي الفطن الجريء تسبب في صدمة كروية، أما النيويورك تايمز فقد أعلنت عن الصدمة بفوز سعودي غيّر موازين القوى المعهود في التاريخ الكروي. هذا عدا عن لقاء السي إن إن الملغم بأسئلة قلقة ومستفزة لوزير الرياضة على ماواجهها به من هدوء رزين وإجابات دلالية تؤكد ثقة كبيرة بالمستقبل الكروي السعودي، وذلك أيضاً مثل اللقاء على نفس القناة بلاعبين سعوديين قبل المباراة حين قالت لهم المذيعة هل أنتم بانتظار لقاء ميسي فقالوا وهو أيضاً بانتظار لقائنا.
وأخيراً هل يمكن أن تقرأ في ردات الفعل المرتبكة هذه التي أبدتها صحفٌ أجنبية بعضها كبرى نوع من الإسقاط في الخشية من أن يكون الفوز السعودي الذي «هز هيبة المنتخبات الكبيرة» رمزاً لهز علاقات تراتبية غير عادلة بين الدول.
وبعد الخلاصة أن مشاركة المملكة العربية السعودية في مونديال قطر 2022م تشكل خطوة من خطوات متوقعة كثيرة على طريق مونديال الرياض 2030 بإذن الله.