د. تنيضب الفايدي
تنشر تقارير بين آونة وأخرى بأن هناك أعداداً من المواطنين خارج المملكة العربية السعودية، ولاسيّما المتقاعدون وعددهم في تزايد، وخاصةً في بعض الدول السياحية مثل مصر وإندونيسيا وغيرها من الدول المتميزة في السياحة، وبعض المعلومات تفيد بأن مجموع السعوديين خارج الوطن أكثر من مليون مواطن، ويستمد هؤلاء ما يخصهم من الأموال من تقاعد أو أعمال من ميزانية الدولة، وتصرف تلك الأموال خارج المملكة، وهو نوعٌ من الاستنزاف تماماً مثل العمال الذين يعملون داخل الوطن، حيث يحولون جميع أموالهم إلى عوائلهم خارج المملكة، وعندما يحلّل أيّ شخص مواقف هؤلاء الذين يقيمون خارج الوطن ويقارنهم بالذين كانوا يتغربون عن الوطن طلباً لحياة أفضل يجد بأن هناك فرقاً كبيراً، حيث إن المتقاعدين تصرف لهم الأموال وهم خارج الوطن ومع ذلك لا تجد الشوق أو الاهتمام بالوطن الأم، لأن بعض المتقاعدين قد يمكث العام تلو العام وهو بعيد عن وطنه، بل وبعضهم (قد) يتعجل (سن التقاعد) ليلحق بالركب (أي: خارج الوطن)، وعلى فكرة (سن التقاعد) لا تنطبق على الجميع، حيث توجد مجموعة من أصحاب الدرجات العلمية العليا ومن المفكرين وأصحاب الخبرة والممارسة العملية الناجحة يبقون في مواقعهم وهذا يحقق بعض الأهداف، ولكن هناك فئة أخرى يبقون في مواقعهم حتى يزيحهم الموت، وقد تغيب عن خواطر أمثال هؤلاء عبارة (البقاء لله)، وتروى حكاية صديقين كانا وزيرين في عهد الدولة العباسية وكان أحدهما يطلق عليه.
(أبو علي) تتم إضافته في كل وزارة جديدة، لكن صاحبه لم يجدد له، فأرسل لصاحبه أبي علي بيتين من الشعر:
وقالوا إن العزل للوزراء حيض
لحاه الله من أمل بغيضِ
لكن الوزير أبا علي
من اللائي يئسن من المحيض
وقد ذكرت في مقدمة الموضوع أن الغربة عن الوطن قديماً تعتبر امتحاناً للمغترب، وتكرر ذكر الاغتراب عن الوطن في الأدب، حيث قال العباس بن الأحنف تشوقاً للوطن:
يا بعيد الدار عن وطنه
مفرداً يبكي على شجنه
كلما جد النحيب به
زادت الأسقام في بدنه
ولقد زاد الفؤاد شجى
هاتف يبكي على فننه
شاقه ما شاقني فبكى
كلنا يبكي على سكنه
وهذا يتشوّق إلى الوطن ويتذكر مواطن الصبا والشبيبة ومنازل الأهل والعشيرة ، جعله يفضل شجر الأبرقين مع أنه دون ظل لكنه أفضل من الروض الناظر:
مغاني الغواني والشبيبةِ والصَبا
ومأوى الموالي والعشيرةِ والأهلِ
لياليَ لا روْضُ الكثيبِ بلا ندى
ولا شجراتُ الأبرقَينِ بلا ظلِّ
فراخٌ نبابي وكرُهنَّ ، وهاجني
كما هاج ليثَ الغاب وعْوعَةُ الشبل
وكم قد رحلتُ العيسَ في طلب العُلا
فلما بكت سُعْدَى حطَطْتُ لها رحلي
نزلتُ على الأيام ضيفاً، فلم أجِد
قرىً عندها غير النزول بلا نزلِ
والبعد عن الوطن يحرم صاحبه النوم ويصيب بالاكتئاب:
أقطع الليل كله باكتئاب
وزفيرٍ فما أكاد أنام
وقال آخر:
إن الغريب ولو يكونُ ببلدةٍ
يجبي إليهِ خراجها لغريبُ
وأقلُّ ما يلقَى الغريبُ من الأذى
أن يستذلَّ وأن يقال كذُوبُ
وقال الشاعر:
إنّ الغريبَ إذا يُنادي موجعاً
عند الشدائدِ كان غير مُجابِ
فإذا نظرْتَ إلى الغريبِ فكنْ له
مترحِّماً لتباعدِ الأحبابِ
وقال آخر:
غريبُ الدارِ ليس له صديق
جميع سؤاله أين الطَّريقُ
تعلَّق بالسؤالِ لكلِّ شيءٍ
كما يتعلَّقُ الرجلُ الغريقُ
فلا تجزع فكل فتىً سيأتي
على حالاته سعةٌ وضيقُ
وقال الشاعر:
عليك سلامُ اللهِ يا خير منـزلِ
رحلنا وخلّفناك غير ذميم
فإنْ تكنِ الأيامُ فرَّقن بيننا
فما أحدٌ من ربها بسليم
وترك الوطن ذل قال الشاعر:
وإن اغتراب المرءِ من غير حاجةٍ
ولا فاقةٍ يسمو لها لعجيبُ
فحسبُ امرئ ذلاً ولو أدرك الغنى
ونال ثراءً أن يقالَ غريبُ
ويستغرب آخر من ترك الوطن:
إن الغريبَ وإن يكن في غبطةٍ
لمعذبٌ وفؤادُهُ محزونُ
ومتى يكونُ مع التغرُّبِ عاشقاً
ومفارقاً يا ربِّ كيف يكونُ
وقال الشاعر: يؤكد الذل في الغربة:
إنَّ الغريب ذليلٌ أين ما سلكا
لو أنه ملكٌ كل الورى ملَكا
إذا تغنّى حمامُ الأيكِ في غصنٍ
حنّ الغريبُ إلى أوطانه فبكى
ويطلب الشاعر من الغريب أن يدعو الله أن يحقق له العودة إلى الوطن:
سل الله الإيابَ من المغيبِ
فكم قد ردَّ مثلك من غريبِ
وسل الحزنَ منك بحسن ظنٍّ
ولا تيأَسْ من الفرج القريبِ
وقال آخر:
تصبَّر ولا تعجل وقيت من الرّدى
لعلَّ إياب الظاعنينَ قريبُ
فقلتُ وفي قلبي جوى لفراقها
ألا لا تُصبرنّي فلستُ أجيبُ
وقال شاعر آخر يذكر الجزع من الغربة:
أعاذِلَ حبي للغريب سجيةٌ
وكلُّ غريب للغريب حبيبُ
لئن قلتُ لم أجزعْ من البين إن مضوا
لطيتَّهم إني إذاً لكذوبُ
من طبيعة الإنسان السوي أن يحنّ لأول منزل ولد فيه وسكنه قال أبو تمام:
نقّل فؤادَكَ حيث شئتَ من الهوى
ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأول
كم منـزلٍ في الكونِ يألفُه الفتى
وحنينُه دوماً لأول منـزل
أما حنينه لأول منزل فهو شبيهٌ بقول أبي هلال العسكري:
إذا أنا لا أشتاق أرض عشيرتي
فليس مكاني في النهى بمكين
من العقلِ أن اشتاقَ أول منـزلٍ
غنيتُ بخفضٍ في ذراه ولين
وروضٍ رعاه بالأصائل ناظري
وغصنٍ ثناهُ بالغداةِ يميني