جواهر الرشيد
إنَّ ظاهرةَ الشِّعرِ من الفنونِ الأدبيَّةِ البارِزةِ في الوطنِ العربيّ، وهو يُعبِّرُ عن واقعِ معيشِ الشَّاعرِ ومجرياتِ حياتِه التي يمرُّ بِها مع كيفيَّةِ استجاباتِه وانفعالاتِه الشَّخصيَّة فَيُصوِّرُ الشِّعرُ أفكارَ الشَّاعرِ وآمالِه وطموحاتِه وأحلامِهِ وكلّ ما يرتبطُ بهِ ارتباطًا وثيقًا.
عاشَ الشّاعرُ (بدر شاكر السّيّاب) يتيمَ الأمِّ باحثًا عن حنانِها في أحضانِ جدَّتِه لأمِّه، كان قلقًا خائفًا يترقَّبُ الحياةَ بعينٍ واجفةٍ وقلبٍ متفطِّر، آلمَه وفاةُ جدَّتِه بعد شدَّةِ تعلُّقِه بهَا، واجَه مصاعبَ الحياةِ المادِّيةِ والعلميّةِ والعمليّة، وعاصرَ حوادثًا سياسيّةً كالحربِ العالميَّةِ الثّانيةِ وتأسيسِ الجمهوريَّةِ العراقيَّةِ وما أعقبَها من ويلاتِ الفقرِ والجوعِ والضَّيَاع. مضَى يُبشِّرُ كلَّ الخائفين من الإذعانِ والانهزامِ بحتميَّةِ الانتصار، ويزفُّ روحَ الأملِ بقلبِه الحنونِ الإنسانيّ المتفجّر بالعطفِ والحنان لكلِّ البائسِينَ واليائسِينَ من الأوجاعِ والأمراضِ وغيرِها من صروفِ الحياة.
تمتَّعَ بعقليَّةٍ عبقريَّةٍ فذَّة وبشخصيَّةٍ زاخرةٍ بالقيمِ الإنسانيَّة، روى ظمأه الفكري محتذيًا خطواتِ القدماء العمالقة من روَّادِ الشِّعر العربيِّ القديم وغيرهم من روَّاد المدارس الشِّعرية الحديثة العربيَّة منها والغربيَّة. أخذَت شاعريَّتُه تشقُّ طريقَها وتتدفَّق بغزارةٍ نحوَ الإبداعِ والتَّألّق فعبَّرَ عن الحياةِ الحديثةِ المعاصرَة مُصوِّرًا آمالَ الأمَّةِ وآلامَها، ممَّا جعلَ الحركةَ الشِّعريَّةَ في العراق تتغذَّى بشعرهِ الرومنسيّ والواقعيّ والإنسانيّ والذَّاتيّ فكانَ من أهمِّ روَّادِ الشِّعر العربيِّ الحديث. وقد لجأَ شعراءُ هذا العصر إلى التَّصويرِ والتَّجسيمِ والتَّشبيهِ الخياليّ في قصائدِهم بتعديلٍ منهم على عمودِ الشِّعرِ العربيّ مما يجعلُ المتلقِّي يستقبلُ معانٍ جديدةٍ وألفاظٍ عذبةٍ تُضفِي على القصائدِ جمالًا وخاصَّةً مع اللحنِ الوجدانِي ذات الطَّابعِ الشّعوريّ الطّاغِي فِي القصائدِ بشكلٍ عام.
باغتَهُ مرضُ العضالِ حتى قضَى على جسدِه المنهك، حاصرَهُ الموتُ من جميعِ الجوانبِ فعاشَ مُترصِّدًا خطواتِ الموتِ بعيدًا عن أهلِه وأبنائِه ووطنِه، وحيدًا في بلادِ الغربة، لا ينادم سوى صوتِ أحاسيسِه المرهفة، مرَّ بمرحلةِ الأملِ بالشِّفاءِ العاجلِ في أوَّلِ مرضِه، وبعد أن أصبحَ الألمُ في ازدياد، واستمرَّ عليه العذاب تمرّدَ وثارَ حتّى استسلم في المرحلةِ الأخيرةِ وأقبلَ على اللهِ خاضِعًا ضارِعًا إليه بآمالٍ تدفعُه إلى عفوِ اللهِ ورحمتِه، مُتذكِّرًا قصَّةَ النَّبيِّ أيُّوب -عليه السَّلام- الذي جعلَهُ رمزًا لذاتِه وصراعِه مع المرض، مَشحونًا بالإيمانِ والرِّضَا، يقول:
لكَ الحمدُ مهمَا استطالَ البلاء
ومهمَا استبدَّ الألم
لكَ الحمدُ إنَّ الرَّزايا عطاء
وإنَّ المُصيباتِ بعضُ الكَرم
ألمْ تُعطِني أنتَ هذا الظَّلام
وأعطيتَني أنتَ هذا السَّحر؟
فهلْ تشكرُ الأرضُ قطرَ المطَر
وتغضَبُ إنْ لم تجدهَا الغَمام؟
إنَّ أسمَى أنواع العطاء هو عطاءُ الإنسانِ أملاً وروحًا جَذلى ونفسًا مُطمئنَّةً مُقبِلةً على الحياةِ بقلبٍ مُتشَبثٍ بالصَّبرِ مُتحلٍّ بالإيمان وإن كثرُتْ أوجاعُه وطالَ عليه الألمُ بليالِيهِ المنهكة فسهدت عيناه من تذوّقِ الوصَبِ والنَّصب، وإنَّ من أجلِّ العطايا عطاءُ المترفين النَّائين عن معرفةِ حقائقِ الحياة بجهلهِم وعيّهِم عظة وعبرة وعلما منظما يصل إلى القلب مُتدفِّقًا نبضاتِه، مُستضيئًا به حياتِه، يراه أينمَا حلَّ وارتحَل.