د.فهيد بن رباح الرباح
[تابعٌ لسابقٍ]
4- من الشَّواهد: قال الباحث الكريم: «وربُّما تجد أيُّها القارئ الكريم ما يصدمك الآن من الأقوال والمعلومات والنَّتائج، وتظنَّ فيه الحيف أو التَّعجُّل أو القسوة، ونرجو منك ألاَّ تتعجَّلَ أنت بالحكم ... والمحطِّمات لكثير ممَّا هو كالمسلَّمات الثَّوابت بين حقائق العلوم والمعارف».
قبل كلامه هذا بثلاثة أسطرٍ؛ أي: النَّصَّ السَّابق حيث قوله: «وقع على الفريقين تهجُّم بالتَّسفيه... وهم في منجاة من ذلك»، وها هي العاطفة تظهر الآن ويبدأ بالهجوم والطَّعن، وهو يهيِّئ القارئ ليقبل منه ذلك! وتراه قد هجم على أسباب المانعين قبل مناقشتها.
- وقوله: «وتظنُّ فيه الحيف أو التَّعجُّل أو القسوة» إن نعم، إذا كان بلا مسوِّغاتٍ ولا أدلَّة فهو حيفٌ وتعجُّل وقسوة، نعم؛ حسُن قوله: «قبل أن تطَّلع على المسوِّغات والأدلَّة» هذا هو المطلوب! يلزم ذكر المسوِّغات والحيثيَّات، ثُمَّ الإتيان بالحكم، فإذا كان رأي المانعين خطأً فيقال رأي غير صوابٍ من دون تسفيهٍ أو ذمٍّ أو قدحٍ، ولو لم يكن رأيهم رأياً معتبراً لما عُدَّ مذهباً من المذاهب في المسألة.
- وقوله: «فأُلفتك لمعلومات سابقة تجعل فيك تحسُّساً ... إلخ» هو تهوين للأحكام والشَّتائم الَّتي سيسوقها، بل مقدِّمته هذه كاشفة للقسوة في الأقوال، والتَّجنِّي والتَّعجُّل بالحكم والجزم بصحَّته، والحيف بالذَّم، والشَّطط بالقول، والطَّعن في النَّحويِّين عموماً دون تخصيصٍ.
5 - ومن الشَّواهد: قول الباحث: «فلقد كرَّر رجال النَّحو والحديث على أسماعنا، وأفهامنا، وأعيننا، وأقلامنا بعض المقولات المستعجلة، وعرضوها بأشكال متعدِّدة من التَّسويغ والتَّقريب حتَّى أصبحت في نفوسنا مقرَّرة مدعَّمة لا نتقبَّل ما يخالفها أو ينقضها إلَّا بعد كثيرٍ من العناء والمعاناة، بل ربَّما نرفض تلقيه لما نجد فيه من تحدٍّ للمواقف المعتقدة ودفع لما هو راسخ في الذِّهن ومتبنَّى شبه القدر المحتوم».
في هذا النَّصِّ ذمٌّ للجميع نحويِّين ومحدِّثين، وفيه تكثير ألفاظٍ بلا غرض إلَّا تبريد الانفعال، من مثل ذكره للأسماع والأفهام والأعين والأقلام، ولو قال بدلاً من هذه المتعاطفات (كرَّروا علينا) لكفاه ذلك، ومن ذلك ما جاء من التَّراكيب غير السَّديدة قوله: (المقولات المستعجلة/ المواقف المعتقدة/ القدر المحتوم)، وكذلك تكرار الثُّنائيَّات تكثيراً، وجلب المترادفات كقوله: (التَّسويغ والتَّقريب/ مقرَّرة مدعَّمة/ يخالفها ويناقضها/ العناء والمعاناة)، ولو بحثت لتجد لهذا الكلام معنى سميناً لم تجد شيئاً، فيصدق عليه أنَّه وصف بلا موصوف، فما الَّذي كُرِّر إلى أن أصبح مقرَّراً؟ لا شيء! وما الرَّاسخ في الذِّهن؟ وما شبه القدر المحتوم؟ كلُّه تكثيف وتهويل.
كذلك لا معنى للغاية بـ(حتَّى) وبدل منها يقال: (إلى أن أصبحت)، وأختم بقوله هنا: «رجال النَّحو والحديث» يفهم منه أنَّهما شيء واحد، وليس هو مراداً للباحث، إذ مراده اختلافهما؛ أي: رجال النَّحو ورجال الحديث، ولو قال: أهل النَّحو وأصحاب الحديث لكان أنسب وأبين.
6- ومنها أيضاً: قال الباحث: «لسوف ترى بنفسك بعد صبرٍ ومتابعةٍ وتصبُّرٍ أنَّنا لم نقسُ على عالمٍ مخلصٍ، ولم نتهجَّم على بريءٍ، وإنَّما بنينا كلَّ وصفٍ أو حكمٍ على ما تقدَّم من الجنح والآثام والجنايات الطامَّات، ...يصل بالقارئ إلى شاطئ الطَّمأنينة والسَّلام والأمان، وينزع عنه ما رسَّخه الماضي من مسلَّمات عاطفيَّة سطحيَّة مفتعلة ومراشقات تنافسيَّة وأوهام».
في هذا الكلام كثيرٌ من المستوقفات الَّتي تستوقف القارئ من ذلك الأسلوب الخطابيُّ فهو يخاطب القارئ ثُمَّ يقول له: «بعد صبر ومتابعة وتبصُّر» فجمعه هذه الثَّلاثة معاً عجيب، علامَ الصَّبر؟ هل يعني نفسه؟ وإلامَ المتابعة؟ ومتامَ التبصُّر؟ ثُمَّ نصَّب الباحث نفسَه حكماً قاضياً، فحكم لنفسه بعدم القسوة على العالم المخلص، ويفهم منه أنَّ القسوة منه ستكون منه على العالم غير المخلص، وأنَّه سيتهجَّم على غير البريء، وهذا منه عجبٌ من العجب! وهل من البحث العلميِّ القسوة اللفظيَّة والتَّهجُّم؟ أهذا من المنهج العلميِّ؟!
ثُمَّ يقول: «الجنح والآثام والجنايات الطامَّات» هذه مصطلحات غير مناسبة في بحثٍ علميٍّ، وأعقبه بقوله: «ميَّزنا بين العمل المتقن والقول الحصيف وبين متعسِّف الأعمال وارتجال الأقوال» لم يظهر لي تمييز مع طول نظرٍ، بل هو هجوم بعبارات لو حُكِم عليها بالسُّوقيَّة أو الشَّتائميَّة لما أخطأ الحاكم بها، فأيُّ تمييز هذا؟ وهذه المتقابلات يكفي عنها أن يقول: (بين الصَّواب والخطأ) أو (بين الرَّاجح والمرجوح)، ويدع هذه التَّراكيب الإضافيَّة والتَّراكيب الوصفيَّة الَّتي غايتها التكثُّر والتَّنفُّج بالتَّرسل، وليس ميدانها البحث العلميّ، وكذا عبارات (جنحٌ/ جناياتٌ/ طامَّاتٌ)، ومثل ذلك قوله: «حتَّى لا تبقَى الأمور عائمة غائمة متداخلة يختلط فيها الغثُّ بالسَّمين والطَّالح بالصَّالح؛ فتضيع الحقائق بين أمواج التُّرَّهات» هذه الألفاظ والتَّراكيب كسوابقها، ويعتقب هذا قوله: «دع عندك ما ألفته من مقولات وأحكام ونظريَّات ومهاترات في هذا الموضوع، وسِر معنا إلى نهاية الشَّوط».
في هذا الأسلوب الخطابيِّ الانفعالي فيه ألفاظ يحسن تنزيه البحث عنها، وسآتي على ذكرها.
- قوله: «هذا الموضوع» فيه الإشارة إلى مجهول؛ لأنَّه لم يسبق أن ذكر (الامتناع عن الاحتجاج بالحديث)، وفيه متعاطفات بعضها يغني عن بعض اللهمَّ إلاَّ إن كان الغرض التَّثليم بالتَّكثُّر، وحاله كأنَّه في مناظرة هائجة، وليس في مناقشة علميَّة هادئة.
والتَّكثير بلا غرضٍ إسهاب معيب في بلاغة الكلام، كما أنَّ مصطلح «الشَّوط» ليس مصطلحاً علميّاً ولا نحويّاً ولا أدبيّاً وليس مكانه هنا، وما شوط الباحث المخاطب به القارئ ليسير معه فيه؟ يقول: «تجد نفسك تنتقل من تشنُّجٍ إلى امتعاضٍ فترجيحٍ فتقبُّلٍ فاطمئنانٍ فتأييدٍ» هذه أمنيات قد تتحقَّق وربَّما لا، والأماني تمليها العاطفة لا المنهج العلميُّ، وما ذكره من هذا التَّصوُّر الَّذي رسمه كأنَّه مخطِّط (سيناريو) لتمثيل مشهدٍ مسرحيٍّ.
- وقال: «وكذلك يكون الحوار البنَّاء يصل بالقارئ إلى شاطئ الطُّمأنينة والسَّلام والأمان، وينزع عنه ما رسَّخه الماضي من مسلَّمات عاطفيَّة سطحيَّة مفتعلة ومراشقات تنافسيَّة وأوهام» أيُّ حوارٍ؟ إذ لا حوار هنا ولا مناقشة علميَّة، والموجود هو الهجوم كما ذكر هو قبل: «لم نتهجَّم على بريء»؛ أي: أنَّنا سنتهجَّم غير أنَّ تهجَّمنا سيكون على غير البريء! فأين الهجوم من الحوار؟ كذلك لا ثمرة تذكر في تخييل الطُّمأنينة بأنَّ لها شاطئاً، ومثلها العطف عليها بالسَّلام والأمان ألهما شُطآن متغايرة أم هو شاطئ الطُّمأنينة مشترك للجميع أم العطف للتَّكثير فحسب؟
- قوله: «ينزع» هو يظنُّ ظنّاً يقيناً أنَّ كتابه سيفعل هذه الأفاعيل في حطم المسلَّمات من الماضي، وفي الحقيقة أنَّ كلامه يخالف حقيقة الواقع؛ لأنَّ السُّيوطيَّ (ت 911هـ) سبقه بتعديد الأقوال في القضيَّة أنَّ فيها مذاهب ثلاثة: مجوِّزاً ومانعاً ومتوسِّطاً، وجاء بعده ابن الطَّيِّب الفاسيُّ (ت 1170هـ) وتولَّى الرَّدَّ مُسهَباً على حُجج المانعين في كتابَيه: (فيض نشر الانشراح من روض طيِّ الاقتراح)، و(تحرير الرِّواية في تقرير الكفاية) بما سدَّ وأغنى في الموضوع نفسه، بل ما زاد على أقواله مَن أتى بعده ممَّن طرق القضيَّة وعالجها، وأمَّا الباحث الكريم فكأنَّه لا يرى إلاَّ إيجاب الاحتجاج بالحديث، فهو لا يرى في القضيَّة ثلاثة المذاهب، وهذه هي حقيقة القضيَّة لديه، وهذا غير علميٍّ عند النَّظر، وهذه هي عقدة المعالجة عنده، إذ كيف سيصل إلى الصَّواب ما دام أنَّه لم يحرِّر الأقوال في القضيَّة؟! بل هو متحيِّز للمجوِّزين، ومتناسٍ للمتوسِّطين، وناقم على المانعين؛ إذ يراهم قد وقعوا في جريرةٍ، وهو ساعٍ في التَّهجُّم عليهم كما يقول وإلى اكتساح أقوالهم، فمن أين ستنفذ إليه الحقيقة أو ينفذ إليها؟!
والباحث على عادته يختم فقرات كلامه بألفاظٍ تندُّ عن الموضوعيَّة، وهي قوله: «عاطفيَّة سطحيَّة مفتعلة ومراشقات تنافسيَّة وأوهام»، وها هو قد حكم على الآخرين بالافتعال والتَّطفُّل والأوهام! ثُمَّ ما الفرق بين العاطفة السَّطحيَّة والعاطفة غير السَّطحيَّة؟ وما معنى سطحيَّة مفتعلة؟ كلُّ هذا من التَّراكيب الوصفيَّة الَّتي تبعث الجلجلة، وهي من الانفعال، وبرقها برق خُلَّب كما يقال في المثل.
لعلَّ في هذا القدر من البيان لنماذج من الانزياح شواهد على الحيدة بسبب العاطفة والانفعال والاندفاع المؤدِّية إلى الارتجال في الأحكام ما فيه كفاية في تحقيق المثال.
وإلى لقاء آخر معاشر القرَّاء، دمتم في رعاية الله وحفظه.