د. شاهر النهاري
لعل سنوات هلال الأخيرة لم تكن كما كانت أبراجها، فقد وجد نفسه يبزغ من عدم، ويرتقي وجوه ومنازل حياته، ويلمع في أمكنة كان يعبرها بمراحل تتمنى تكوين بدره العظيم، مع شعوره بأن الأيام تسرق من رزنامته، وأن حافة ضيائه تستدق وتكاد تضمحل، مع مرور أي غيمة بسيطة تهدد جلائه.
ومن يلومه فعمله كان رتيباً روتينياً كساعة سويسرية لا تخرج عن مسارها قبل أن تتشابك عقارب علاقاته بزملائه، ومديره الحالي بشكل يزيد الظلال ويكتل أنفاس الرتابة.
رب ضارة نافعة، ورب نافعة تضر، فقد كان منذ نعومة سطحه قارض أوراق وعاشق قلم، فلا يجد نفسه إلا فوق رفوف الكتب، يقلب في العناوين، ويستنطق المقدمات، ويعتصر المعاني، ويغيب أياماً يجدف بين مقاطع الفصول، وكم يغرق ليله، وهو يتشبث في قشة مخطوطة.
كان قارئاً متعمقاً، وكان يمتلك الحس الأدبي والحس الاجتماعي والسياسي بتعمّق من يدرك أنه يمتلك قدرة التنظير والنقد الحكيم، يرفع ميزانه مغلق العينين وهو يجري محاكمات لكبار الكتاب فيما يسطرون، يواجههم، ويناقشهم طوال لياليه، وكم يحرجهم بسطوع لمعة ثقافته، ويكشف مواطن ضعفهم، ويعتب على أورام سيرهم الذاتية، وصور وجوههم وهي تنظر إليه بدهشة.
لقد كان ينتقدهم بكل جرأة، وهم صامتون، تختلط بسماتهم بحيرتهم فيما يقول وهو يرتقي أبراج منازل السماء.
مطلقا، انتقاده لم يكن للهدم، فهو يؤمن بوجود الكمال في زاوية مهملة، وأن النقص البسيط، يمكن إصلاحه، وإعادة رسمه بسماء نفس صافية تتقبل النقد، بلمعة تزيد الحسن، ولا تحرق النجوم.
مثقف، هذا ما يصفه به زملاؤه في العمل، وهم يدركون ذلك من طريقة تفكيره وأحاديثه ونقاشاته، وكثير ما يشهدون بأن تحليلاته منطقية، برغبته في تأطير الكمال، بشكل قد يزعج الكثير، ممن يتعمدون طرح الأمور الجدلية أمامه بخبث، مدركين أنه سيقلب كل الأوراق، وينبش السطور، ويعود بطريقته المغرورة، بعض الشيء، وهو يخفي جزءاً من وجهه المستدير، المنير، كي لا يجهر أعين، من ليسوا بقادرين على مجاراته، في تكديس الصور، ورصد كوكب عطارد، وسط مدار يصعب على العين المجردة تمييزه، حال تراكم الغيوم.
حتى هنا وحكايته أمر غير ذي بال، وقبل قراره بالتوجه للكتابة الصحفية، متأملاً أن يزيد دائرة وعيه، وينشر آراءه بصحيفة أسبوعية، ما جعل زملاءه يتنبهون، إلى تشابه وجهه، ببدر أصبح يطل عليهم كل أسبوع، بمقال نقدي يسافر بهم خلاله، بين مدن وبلدان وحارات ومؤسسات، ويترك بعد كل درجة سطوع وصعود أثر، وخلف كل هبوط مراصد تحفز وشهود، فعبر النجوع، وزار المدن الزجاجية، وظل يواجه كل عمل يحتاج إلى النقد من وجهة نظره.
بداية لم يكن ينتقد بحدة، كون نقد الكبار يحرك حمم البراكين الملتهبة، ويصنع العقبات، التي من شأنها أن تمسح ضياءه، الذي كان يرسله مصباحاً سماوياً، ينير الليل في أعين من يحبون الصدق، وهو مرصد كرم وأمانة، وإخلاص وشجاعة، يبحث عن سطوع روحه، بين أغصان أشجار كثيفة، يقلمها وينظر بينها وينتظر.
شعور سمح له بالترقي في سماء الأصحاب، مع ازدياد وهجه، ليجد له مكانة عليه، يشار إليها بالبنان.
وبعدها عرف أنه يستطيع الأكثر، ففكر في انتقاد ما يجري في مجال عمله الصغير، وكتب مقاله الأول، فكان شبه خسوف، في تلك الليلة، حيث قرأه جميع من يعملون معه، والتفوا حول المقال نقاد يقلبون فقراته، ويخمنون المقاصد، ومن كان يشير إليهم رمزاً، ويفضح أفعالهم عيناً، والجميع يدورون تحت ضيائه، وهم يعظمون المعاني والتفاصيل الصغيرة.
مقال جلجل أروقة العمل، وطرق باب مكتب المدير، الذي عرف أنه موجه ضد طريقته في إدارة العمل، وبشكل لم يحترم خصوصية المكان، بل فضح أشكال وألوان قطع الغسيل المبتلة على الحبال، وسط ليل تباطأ عنه جلاء الصبح.
واستمرت المقالات صعقات محرقة، ومديره من خلال المراسيل يحاول أن يثنيه، ويطلب منه الفصل بين الظلمة، والضياء الفاضح لخصوصيات العمل، ولكنه بإحساس الناقد الأصيل، يرفض أن يكتم أنفاس قلمه، ويطرح مقالاً آخر وآخر، وكأنه دخل مناطق تحدي الظلمة، مهما نعست الأعين، وسكتت الألسن، في مجتمع اكتشفوا فيه أن المقولة الصغيرة ليست إلا كرة ثلج، تتحدر متضخمة، وتسحق معها كل سكون.
لقد أحبه فريق لم يكونوا يحبونه في السابق، باعتبار ما قدمه لهم من وضوح يسهل لهم الترقي، وكرهه فريق آخر بكونه يجرح في أسسهم، ويحاول هد حصونهم، ونخر سدودهم، والتشكيك في صفاء سمائهم.
ويتكرر بروزه وصعوده وبلوغ استدارته البدر، وفي كل مقال يجد من يعاندونه، ومن يحاولون إبعاده من الصور، وخلق الخسوف، والعتم، حتى لا يعود يراه أحداً، ولكنه يصر على ديمومة بدره، والظروف المحيطة به تخنق كل طموح له، حتى وجد نفسه في منحدرات بعيدة، لا تسمح له بالظهور، إلا كما تظهر أعين البوم وسط حفرة في شجرة.
لقد عرف عندها أنه إن حاول طمس النجوم، فلا بد أن يعرف حدود المعقول ومعقولية الحدود في سمو النقد، دون خروج عن المسار، ودون انقطاع دورته، وذبول سطوعه، وارتسامه في دنيا سديم محرقة تنذر بانفجار عظيم.