صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
البداية نجدها عند الشاعر الجاهلي امرئ القيس حيث يذكر في معلقته أبياتاً شهيرة يوظف فيها القلب توظيفاً متعدداً منها استخدام القلب للدلالة عن الذات فيقول:
أفاطم مهلا بعض هذا التدللِ
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وإن تك قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي عن ثيابك تنسلي
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ؟
ويقول طرفة بن العبد في وظيفة مختلفة للقلب:
خليلي لا والله، ما القلب سالم
وإن ظهرت مني شمائل صاحٍ
ويقول أيضاً:
وأروع نباض أحذُ ململم
كمرداة صخر في صفيح مصمد
نباض: كثير النبض، أحذّ: ضامر، ململم: مجتمع مدور، كمرادة صخر: قاس كالحجر الذي تدق به الأشياء، في صفيح: أي معلق في سماء، مصمد: ملفوف في مثل المنديل.
وتقول الخنساء في وظيفة ثالثة للقلب:
يا لهف نفسي على صخر، وقد لهفتْ
وهل يردن خبل القلب تلهيفي
وينسب للإمام علي بن أبي طالب بيت رائع موجز وبسيط، في دلالة أخرى للقلب:
وللقلب على القلب
دليل حين يلقاه
أما الأخطل الشاعر الأموي فالعقل عنده هو القلب، والعكس بالعكس فيقول:
وكنتُ صحيح القلب حتى أصابني
من اللامعات المبرقعات خُبولُ
وقال قيس بن ذريح:
أحبك أصنافاً من الحب لم أجد
لها مثلا في سائر الناس يوصفُ
فمنهن حب للحبيب ورحمة
بمعرفتي منه بما يتكلفُ
ومنهن ألا يعرض الدهر ذكرها
على القلب إلا كادتِ النفسُ تتلفُ
وحب بدا بالجسمِ واللون ظاهر
وحب لدى نفسي من الروح ألطفُ
وقال جميل بثينة:
يهواك ما عشتُ الفؤاد فإن أمتْ
يتبع صداي صداك بين الأقبر
أما الشاعر الأعمى بشار بن برد فيحدثنا عن عيون وآذان قلبه فيقول:
يزهدني في حب عَبْدَةَ معشر
قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فقلتُ:
دعوا قلبي وما اختار وارتضى
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحبِ
فما تبصر العينان في موضع الهوى
ولا تسمع الأذنان إلا من القلبِ
وقال البحتري في لغة القلوب والعيون:
ويُعرضُ عني والهوى منهُ مقبل
إذا خاف عيناً أو أشار رقيبُ
فتنطقُ منا أعين حين نلتقي
وتخرسُ منا ألسن وقلوبُ
أما أبوتمام فيقول:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
ويقول المتنبي الحكيم صاحب الحكم الشعرية المدوية في كل لون:
وما استغربتْ عيني فراقاً رأيتهُ
ولا علمتني غير ما القلب عالمهْ
أما ابن حزم الأندلسي صاحب كتاب طوق الحمامة فقد أجرى أول عملية قلب مفتوح في التاريخ نظرياً على الأقل حيث يقول في كتابه المذكور:
وددت بأن القلب شُق بمدية
وأدخلت فيه ثم أُطبق في صدري
تعيشين فيه ما حييتُ فإن أمتْ
سكنتِ شغاف القلب في ظُلمِ القبر
أما عبد الله بن سليمان فقال:
القلب يدرك مالا عينَ تدركه
والحسن ما استحسنته النفس لا البصرُ
وما العيون التي تعمى إذا نظرت
بل القلوب التي يعمى بها النظرُ
وقال شاعر:
أنت ماض وفي يديك فؤادي
رد قلبي وحيث ما شئت فامضِ
وقال آخر:
ولي فؤاد إذا طال العذاب به
هام اشتياقاً إلى لقيا معذبه
وقال آخر:
ملكت قلبي وأنت فيه
كيف حويت الذي حواكا
وقال آخر:
قل للأحبة كيف أنعم بعدكم
وأنا المسافر والقلب مقيم
وقال آخر:
عذبي ما شئت قلبي عذبي
فعذاب الحب أسمى مطلبي
ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
وكنت إذا سألتُ القلب يوماً
تولى الدمع عن قلبي الجواباً
ويقول الشاعر غازي القصيبي:
حنانيك يا قلب بعض الهدوء
فصدري كاد يجن اشتعالا
ولا تتعلق بقلب الشعراء مشاعر الحب والعشق والهيام فقط، وإنما تتعلق به أيضاً مشاعر الشجاعة والحمية والوفاء والذكاء والفطنة والحكمة وكلها في الحقيقة وظائف العقل وهذه أبيات استخدمت فيها كلمات القلب والفؤاد بمعنى الذات والعقل:
يقول الشريف المرتضى:
فكر بقلبك فيما أنت تبصرهُ
فالأرض مملوءة الأقطار بالعبرِ
وقال شاعر:
متى تجمع القلب الذكيّ وصارماً
وأنفاً حميّاً تجتنبكَ المظالم
وللشاعر أبي البقاء الرندي بيت شهير في رثائيته الأندلسية يقول فيه:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمانُ
وقال شوقي:
إن الشجاعة في القلوب كثيرة
ووجدتُ شجعانَ العقولِ قليلُ
وقال إيليا أبو ماضي:
حرُّ ومذهب كل حر مذهبي
ما كنت بالغاوي ولا المتعصبِ
يأبي فؤادي أن يميل إلى الأذى
حبّ الأذية من طباع العقرب
وفي الحب الإلهي يقول الشاعر محمد إقبال:
يشكو لك اللهم قلب لم يعش
إلا لحمد عُلاك في الأكوان
- قيس بن الملوح صاحب القلب المكسور أشهر مريض قلب في العالم.
أكدت الدراسات الحديثة أن العوامل النفسية تُسهم بشكل ملحوظ في تكوين أمراض عضوية كمرض تصلب شرايين القلب، فكلما زادت الحالات النفسية وتعددت في شخص واحد زادت خطورة أمراض شرايين القلب عليه.
كما حددت الدراسات خمس حالات من الأعراض أو الأمراض النفسية التي تشكل خطورة على القلب وهي: الكآبة، والقلق، الاضطرابات الشخصية والسلوكية، العزلة الاجتماعية، الضغط النفسي المزمن.
وتؤكد الدراسات أن هناك مرضاً يسمي مرض القلب المكسور، وهي حالة تسبب بشكل وقتي قصوراً في القلب بسبب فاجعة ما أو توتر عاطفي شديد، ففي بعض المرضى يؤدي التوتر الشديد إلى أن يجعل القلب يصاب بالسكتة التي قد تؤدي إلى الموت.
وجل ما ذكرته هذه الدراسات، لا يخرج في أغلبها عما وصفه قيس بن الملوح - مجنون ليلي- فقد ذكر في قصائد عدة أدق وصف عُرف لمرض اضطراب القلب وقصوره وكسوره وضعف شرايينه في تاريخ الطب العربي والعالمي حتى القرن الثامن عشر، كما يمكن أن ندعي أنه لم يسبق المجنون شاعر ولا طبيب في وصف آلام الذبحة الصدرية وآلام الجلطة القلبية، ويبقي ادعاؤنا أن المجنون قد توفي حتماً بالسكتة القلبية نتيجة تصلب الشرايين فقد أدي انسداد شريان القلب التاجي إلى جلطة قلبية سببت الوفاة.
والآن مع بعض أشعار المجنون التي ندعي أنها تصف هذا المرض:
في البداية يقول المجنون وقد علم منذ البداية أنه مقتول بحبها:
خليلي أمّا حُب ليلى فقاتلي
فمن لي بليلي قبل موتِ علانيا
ويقول محدثاً قلبه الذي أودي به الحب ولم يجد طبيباً له:
ألا أيها القلب الذي لجّ هائماً
بليلى وليداً لم تقطع تمائمه
أفق قد أفاق العاشقون وقد أبى
لما بك أن تلقى طبيباً تلائمه
ثم يقول محدثاً نفسه معاتباً لها لعلها تفيق قبل أن ينزل به البلاء:
ما بال قلبك يا مجنون قد خُلعا
في حب من لا تري في نيله طمعا
ثم يقول إنه مقروح يئن شوقاً ويغصُّ من شوقه بشرابه أن يَسْلمَ من خطَراتِ الجنون:
ولي كبدُ مقروحة من يبيعُني بها
كبداً ليست بذاتِ قروحِ
أئنُّ من الشوق الذي في جوانحي
أنين غصيص بالشراب جريحِ
ثم يعاتب قلبه ويلومه باتباعه هوى ليلى متوعداً إياه بسوء المصير ضارباً له من كل مثل فيقول:
ألا أيّها القلب اللجوج المعذّل أفق
عن طلاب البيض إن كنت تعقل
أفق، قد أفاق الوامقون وإنما
تماديك في ليلى ضلالٌ مضلّل
سلا كلّ ذي ودٍّ -عن الحبّ- وارعوى
وأنت بليلى مستهام موكّل
فقال فؤادي: ما اجتررت ملامةً
إليك، ولكن أنت باللوم تعجل
فعينك لمها، إن عينك حمّلت
فؤادك ما يعيا به المتحمّل
لحا الله من باع الخليل بغيره
فقلت: نعم، حاشاك إن كنت تفعل
وقلت لها: - بالله ياليل- إنني
أبرُّ، وأوفي بالعهود، وأوصل
هبي أنني أذنبت ذنباً علمته
ولا ذنب لي ياليل، فالصّفح أجمل
فإن شئت هاتي نازعيني خصومةً
وإن شئت قتلاً إن حكمك أعدل
نهاري نهارٌ طال، حتى مللته
وليلى -إذا ما جنّني الليل- أطول
وكنت «كذئب السوء» إذ قال مرّةً
لبهم: رعت، والذئب غرثان مرمل
ألست التي من غير شيء شتمتني؟
فقالت: متى ذا؟ قال: ذا عام أوّل
فقالت: ولدت العام، بل رمت كذبةً
فهاك فكلني، لا يهينك مأكل
وكنت «كذبّاح العصافير» دائباً
وعيناه - من وجدٍ عليهن- تهمل
فلا تنظري ليلى إلى العين وانظري
إلى الكفّ؛ ماذا بالعصافير تفعل؟
ويقول:
فؤادي بين أضلاعي غريب
يُنادي مَن يُحبُّ فلا يُجيبُ
أحاط به البلاء فكل يوم
تقارعه الصبابة والنحيب
لقد جَلبَ البَلاءَ عليّ قلبي
فقلبي مذ علمت له جلوب
فإنْ تَكنِ القُلوبُ مثالَ قلبي
فلا كانَتْ إذاً تِلكَ القُلوبُ
وقال في وصف خفقان قلبه:
كأن القلب ليلةَ قِيلَ يُغدى
بليلى العامرية أو يُراحُ
قطاة غرها شرك فباتتْ
تُجاذبهُ وقد علق الجناحُ
وقوله الذي يعطينا وصفاً جيداً لأعراض الذبحة الصدرية والجلطة القلبية:
كأن فؤادي في مخالب طائر
إذا ذكرت ليلى يشد به قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم
عليّ فما تزداد طولا ولا عرضا
كما يقول:
إذا ما استطال الدهر يا أم مالك
فشأن المنايا القاضياتِ وشانيا
(أم مالك: كنية ليلى، وشانيا: وشأني، سُهلت الهمزة لضرورة القافية)
فأنت التي إن شئت أشقيت عيشتي
وأنت التي إن شئت أشقيتِ باليا
وأنت التي ما من صديقٍ ولا عدا
يري نِضْو َ ما أبقيت إلاَّ رثي ليا
(النضو: الإنسان المهزول والثوب البالي الممزق. يقصد بالنضو نفسه المحطمة الممزقة)
ذكَتْ نار شوقي في فؤادي فأصبحت
لها وهج مستضرمٌ في فؤاديا
مُعذبتي لولاك ما كنت هائما
أبيتُ سخين العينِ حرّان باكيا
(سخين العين: عينه تبكي بشدة وحرقة. حران: لهفان)
معذبتي قد طال وجدي وشفني
هواكِ فيا للناس قلَّ عزائيا
(شفَّني: أضناني وأسقمني)
إلى أن يصل إلى قوله:
على مثل ليلى يقتلُ المرء نفسه
وإن كنت من ليلى على اليأس طاويا
خليلي إن ضنوا بليلى فقربا
ليَ النعش والأكفان واستغفرا ليا
وقد كان.
** **
- عضو اتحاد كتاب مصر