عبدالوهاب الفايز
منذ أن دارت الأخبار، قبل بضعة أشهر، عن زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية لحضور قمة سعودية وخليجية وعربية في الرياض، توالت المقالات والتقارير الإعلامية الغربية التي تتحدث عن توجه سعودي جديد تجاه الصين. هذه الزيارة صورت على أنها مؤشر انحياز واضح للصين، وهناك من ذهب بعيداً ليقول: إنها ضد أمريكا, وطبيعي أن تَستخدم قوى اليسار الليبرالي المتطرف ذات الحضور القوي في الإعلام مثل هذا الحدث للزعم أن المملكة تتخلى عن مصالح حلفائها وأصدقائها الغربيين مقابل الشراكة مع الصين وروسيا.
في المملكة لا يهمنا في أيِّ موقف يضعوننا فيه، ما يهمنا هو ثقتنا بأن قيادة بلادنا تتحرك في مصالحها مع الشرق أو الغرب طبقًا لمصالح شعبها العليا، وأيضًا ثقتنا أن القرارات السيادية السعودية هي في موقع القوة دائمًا.. وهذا التميز في القدرة على الحراك السياسي الذكي الحكيم هو الذي يجعلنا نستطيع إقامة علاقات متوازنة مع كل القوى الدولية الصاعدة مثل الصين والهند، أو مع القوى مثل روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. وتوجه القيادة السعودية لتنويع التحالفات الإستراتيجية تدعمه النخب السياسية والاقتصادية والتجارية السعودية لأنه يخدم مصالحها بالذات مع تحول الصين إلى قوة عظمى، وأكبر مستورد للطاقة.
وأيضًا يخدم مصالحنا تنمية وتقوية العلاقات مع الصين بعد تطور التعاون الاقتصادي والتجاري السعودي الصيني والذي شهد نموًّا سريعًا رفع حجم التجارة البينية بين البلدين والتي بلغت حوالي 2.04 تريليون ريال خلال آخر عشر سنوات منذ 2009 حتى عام 2019 موزعة إلى نحو 1.3 تريليون ريال صادرات سعودية إلى بكين، وأكثر من 700 مليار ريال واردات للمملكة من الصين. وحرص قيادة البلدين على توسع التعاون والشراكة في شتى المجالات سوف يطور العلاقة الثنائية مستقبلًا، فالسعودية لها مكانتها الدينية والحضارية والاقتصادية، والصين لديها ما تملكه من إمكانات وقدرات اقتصادية وتقنية وبشرية هائلة.
رؤيتنا وحرصنا على تنمية العلاقات الإستراتيجية مع القوة الصاعدة، مثل الصين، يجد الاهتمام والتفاعل من القيادة الصينية. وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، صرح الشهر الماضي أن بلاده (تولي أهمية كبيرة لتطوير العلاقات الصينية السعودية، وتضع الرياض في موقع الأولوية في الدبلوماسية الصينية الشاملة، ودبلوماسيتها مع منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص).
هذا الاهتمام الصيني يهيئ الأجواء والظروف لتطور العلاقة العربية الصينية. فالصين لديها أمور عديدة تجمعها مع الدول العربية فكلاهما عانيا من التدخل في شؤونهما من الدول الاستعمارية لعدة قرون. وحتى في الظروف المعاصرة تتجه أمريكا وحلفاؤها الغربيون إلى دفع الدول العربية إلى العداء مع الصين وروسيا. ويستخدمون أوراق ضغط عديدة، بعد أن تراجعت أهمية ورقة حقوق الإنسان نتيجة انكشاف حالة النفاق السياسي في الممارسات الغربية في قضايا حقوق الإنسان في عدة جبهات.
لذا، فالقمة العربية الصينية الأولى التي تستضيفها المملكة بداية مهمة ونوعية لدفع مسيرة الشراكة الإستراتيجية العربية الصينية. فالتعاون الاقتصادي والسياسي العربي الصيني آفاقه واسعة، وهو ضروري لكي نستوعب مخاطر الظروف الدولية المضطربة والمرشحة لتغيرات كبيرة. تطور العلاقات الإيجابية بين الدول العربية والصين سوف يكون في مصلحة شعوب المنطقة، ويخدم السلام العالمي.
وحتى تكون العلاقة مع الصين في مسار مصالح الشعوب، نتطلع أن تؤسس هذه القمة لجهود صينية عربية جادة لرسم إستراتيجية تعاون تأخذنا لمستقبل جديد حيث نستطيع استثمار تاريخ وحضارة الشعوب العربية والصينية لكي نساهم بقوة في ترتيب وصياغة هيكل العلاقات الدولية في عالم متعدد الأقطاب، وفي ظل بنية دولية جديدة تعيد تعريف قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وحقوق تقرير المصير، بعيدًا عن التعريفات التي صاغتها القوى الغربية، وفرضتها في أجندات الأمم المتحدة، بالذات التعريفات الجديدة للإنسان والهويات الجندرية الموسعة لحركات الشواذ الليبرالية الغربية المتطرفة، وهي تعريفات ترفضها الصين وأغلب المجتمعات الشرقية.
تبني الدول العربية توجهًا إستراتيجيًّا لتنويع علاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية مع الصين، يخدم الأمن القومي العربي، ويتيح الفرصة لاستثمار الاندفاع الصّيني القوي تجاه المنطقة العربية وخصوصًا الخليجية، فالصين بحاجة لإمداد مستقرة للطاقة حيث تستورد نصف احتياجاتها من الدول العربية. كما أن مبادرة الحزام والطريق (طريق الحرير المعاصر) التي أطلقتها الصين تجعل من الموقع الجغرافي للدول العربية ضرورة إسترتيجية لنجاح هذه المبادرة. فدول الخليج توفر المصدر الضروري لإمدادات النفط، ودول شمال إفريقيا توفر الأسواق الاستهلاكية للمنتجات الصينية، وتوفر ممرًّا للصادرات الصينية لأسوق أوروبا وأمريكا الجنوبية. وفي السنوات الماضية وقعت الصين شراكات إستراتيجية مع الجزائر ومصر والمغرب، وتستكمل هذه الشراكات مع تونس وليبيا.
وحتى على المستوى الأمني، الصين تتطلع إلى حضور قوي في المنطقة، فقد وسعت علاقاتها في مجالات الدفاع مع أغلب الدول العربية والإسلامية، وفي جيبوتي بنت قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، وبنتها خلال عام واحد.
طبعًا هذا الحضور الصيني القوي والمتصاعد في المحيط العربي سيكون مقلقًا وغير مريح للدول الغربية، بالذات أمريكا التي تنخرط الآن في صراع وجودي مع الصين وروسيا، فأمريكا تعلنها صراحة أنها لن تسمح للصين بالتفوق الاقتصادي أو العسكري، وأيضًا تخشى تفوقها في العلوم الأساسية والاتصالات وفي الذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص.
وما يهمنا كسعوديين هو أن نبحث عن المسارات النوعية المتجددة في التعاون الدولي، فالمملكة يهمها مصلحة شعبها في المقام الأول ولا تتقلب في توجهاتها لتبديل الحلفاء أو الأصدقاء، فالمصالح العليا للشعب السعودي هي الأساس والمعيار.
والسؤال: هل التعاون النوعي مع الصين يحقق الأهداف الإستراتيجية للسعودية في المرحلة القادمة؟ طبعًا كلنا نتفق أنه يخدم مصالحنا.