رضا إبراهيم
منذ مئات السنين، ومنذ أن ظهر الإسلام في مدينة (مكة المكرمة)، لازمه اهتمام الغرب بالعالم الإسلامي اهتماماً خاصاً، لتحقيق العديد من الأهداف، ومن خلال آراء المؤرخين، ثبت أن الاحتلال الغربي للشرق، استفاد كثيراً من رحلات الاستشراق.
وهناك العديد من المستشرقين ساروا كـ (مرافقين) للمحتلين، لمعاونتهم على الوصول إلى الأمكنة، التي سبق لهم معرفتها قبل مجيء المحتلين، ومنهم من صاغ بيانات الاحتلال التي أذاعها المحتل لبلاد الشرق توطئة لقدومه، ومنهم من عمل كـ (مركزٍ) للمعلومات يهدي بها طريق المحتل، حالة عدم وجود المستشرق معه.
وفي مجمل حديثه عن رفض الإسلام ديناً بديلاً عن النصرانية ببلاد الشرق، وتأكيداً منه على حماية النصارى بالشرق من الإسلام أكد (مراد هوفمان) قائلاً «إن الغرب يتسامح مع كل المعتقدات والملل، حتى مع عبدة الشيطان، ولكنه لا يُظهر أي تسامح مع المسلمين، فكل شيء مسموح به إلا أن تكون مسلماً»، وذلك القول كان نابعاً من صورة الإسلام المشوهة تماماً بالغرب، وتأكيداً على ذلك عبر المستشرق الهولندي (سنوك هرجرنيه) الذي انتحل اسماً إسلامياً وهو (عبد الغفار) في كلمات مقتضبة بقوله «إن الشريعة الإسلامية موضوع هام للدراسات الاستشراقية، ليس فقط لأسباب تجريدية نظرية، تتعلق بتاريخ القانون والحضارة والدين، ولكنها أيضاً لأهداف عملية، وذلك كلما توثقت العلاقات بين أوروبا والشرق الإسلامي، زاد عدد البلاد الإسلامية، التي تقع تحت سيادة أوروبا، وزادت الأهمية بالنسبة لنا نحن الأوروبيين لكي نتعرف على الحياة الفكرية وعلى الشريعة، وعلى خلفية المفاهيم الإسلامية».
ويُعد المستشرق لودفيكو فارتيما، أول شخص غير مسلم يزور (مكة المكرمة)، وهو ما أكده فيما بعد مؤرخو أوربا على أن فارتيما كان يعمل وبشكل مباشر تحت إمرة الاحتلال البرتغالي، حيث انحصر دوره في اكتشاف ثروات الشرق عامةً والهند خاصةً، بجانب جهود البرتغاليين في تطويق العالم الإسلامي، وذلك الأمر كان استمراراً منهم لما أطلقوا عليه (حرب الاسترداد)، ومن خلال تعاون كنسي واسع المجال، والذي كان يحركه كبار بابوات كنيسة روما، قام فارتيما ببعض المهام، وهو ما ظهر في طليعة الرحالة الغربيين ممن أتوا لزيارة منطقة الحجاز، عن الفترة التي ما بين عامي (1456 - 1517م) حيث وصل إليها ضمن قافلة حجاج دمشقية، وفيها قويت علاقته مع واحد من مسؤولي القافلة الكبار، ومن خلال وسائل الرشوة وتحت اسم جديد ومستعار اتخذه لنفسه وهو الحاج (يونس المصري)، تمكن من إيجاد وظيفة حارس مملوكي، ضمن حراس القافلة.
وعن اسمه في بلاد الهند، فقدم نفسه تحت اسم الحاج يونس العجمي من بلاد فارس، وفي أحياناً كثيرة كان يقدم نفسه باعتباره واحداً من الصوفيين والدراويش، حيث كان يتهافت عليه جموع الناس من مدن الهند، راجين منه السماح لهم بتقبيل يديه وركبتيه التماساً منهم لنيل البركة، وقد مكث فارتيما أو الحاج يونس في مدينة مكة المكرمة بضعة أسابيع، تمكن خلالها من مشاهدة كل ما فيها من أمور وأسرار وخبايا، واستطاع تقديم وصف كامل لها، مؤكداً على أنها تضم نحو ستة آلاف أسرة، كما تحدث عن شح المياه بها، ووصف أيضاً مناسك الحج والعمرة، والاغتسال بماء زمزم.
كما وصف الكعبة بقوله «وفي باحة مكشوفة في وسط المبنى، يوجد برج تبلغ أطوال كل أضلاعه الأربعة ست خطوات، وقد غُطي هذا المبنى بالحرير الأسود وبه باب من الفضة الخالصة، بارتفاع قامة الإنسان، وعن طريقه يمكن الدخول لهذا البرج، ويوجد على كل جانبي هذا الباب جرة يقولون إنها مليئة بالبلسم وعند كل ركن من أركان الكعبة توجد حلقة كبيرة، وعلى بعد عشر خطوات أو اثنتي عشرة خطوة من الكعبة، يوجد برج آخر يشبه مصلاة كنائسنا أو كاتدرائياتنا، ذو ثلاثة أبواب أو أربعة، داخله بئر رائعة وماؤها مالح قليلاً، وعند هذا البئر يقف ستة رجال أو ثمانية لسحب المياه للناس»، وفي مكة قابل واحداً من تجار المسلمين الذي اتهمه بالجاسوسية، لكن فارتيما المحنك استطاع ببراعة رد ذلك الاتهام عن نفسه مؤكداً للجميع أنه واحدٌ من المماليك، فما لبث أن هدأت الشكوك من حوله، ولم تكن مكة المكرمة هي المدينة الوحيدة التي جمع فارتيما معلومات استخبارية عنها، ولكنه فعل نفس الشيء، عند زيارته مدينتي جدة والمدينة المنورة، ووصفه الحياة المعيشية بهما، بشكل دقيق جداً.
وفي الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، كان جزءاً كبيراً من الشرق واقعاً تحت سلطة الاحتلال الغربي، ففرنسا أكملت احتلالها الكلي للجزائر عام 1857م، بينما احتلت بريطانيا مصر وتونس عام 1882م، وهكذا بات الاحتلال يقطع أوصال العالم الإسلامي إرباً وطوَّق كافة أراضيه خدمةً لأهدافه التوسعية، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م، كان العالم الإسلامي واقعاً تحت رحمة الاحتلال الغربي، وذلك كله لم يكن سوى بمباركة وتشجيع من المستشرقين، وحتى الرايخ الألماني لم يكن غافلاً عن ذلك، فنجد أن المستشرق الألماني (كارل هينريش بيكر) خادم الإمبراطورية الألمانية، قد قام بإجراء دراسات وافية عن الشرق قدمها إلى دولته، كان من نتاجها وقوع عدة مستعمرات بإفريقيا تحت السيادة الألمانية من عام 1886م وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
كما يرجع الفضل إلى بيكر في تأسيس ما عُرف بـ (معهد اللغات الشرقية) بمدينة (برلين)، وكانت من أهم أهدافه الحصول على معلومات كاملة عن ثقافات شعوب وبلدان منطقة الشرق الأقصى، وهو ما أكده المستشرق الألماني (أوليريش هارمان) بقوله «كانت الدراسات الألمانية حول العالم الإسلامي، قبل عام 1919م أقل براءةً وصفاء نية حيث كان كارل هينريش بيكر، وهو من كبار مستشرقينا، منغمساً في النشاطات السياسية حتى أصبح عام 1930م شديد الحماس لمخطط استخدام الإسلام في قارة إفريقيا والهند، كدرع سياسية في وجه الجانب البريطاني»، وعلى غرار ما أكده المستشرق الألماني هارمان جاءت تأكيدات مستشرق ألماني معاصر وهو (إستيفان فيلد) باعتبارها شهادة تاريخية على نوايا المستشرقين بقوله (والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين، سخّروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين، وهذا واقع مؤلم لا بد من أن يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة).
وفي بحثها عن وسائل جديدة لتحقيق أهدافها، لبست الحركات الاستشراقية لباس (البحث العلمي)، وهو لباسٌ كان يهدُف إلى مساعدة الحركات المعادية للشرق عامةً والإسلام خاصةً، فادعت تلك الحركات وافر الموضوعية بمجالي المنهجية والبحث العلمي، وأخرجت مزاعم تفسير التاريخ الإسلامي بشكل أكثر صحة ودقة، وكان العاملون على نشر تلك التفاسير، يقومون بالعمل على تطبيق نظرية (دس السُم في العسل) باللجوء مرات إلى تفسير التاريخ شعوبياً وعنصرياً، ومرات أخرى فسروه تفسيراً غربياً مادياً تحت سيطرة المذاهب المادية الداعية، إلى أن الصراع الطبقي وصراع الحضارات، هو الأساس في مجمل تفاسير الحركات التاريخية.
ما أدى لاحقاً، إلى بروز ما عُرف بـ (المستغربون) وهم الذين تبنوا علانيةً أفكار المستشرقين، وعملوا على محاكاة آرائهم واعتبارهم أئمة لهم، وإطلاق الدعوات الهادفة إلى السير على طريقتهم المثُلى وانتهاج تفسيراتهم، وكانت الطامة الكبرى تكمن في قيام نفرُ من المستغربين، وبدلاً من الزود على ثوابت العقيدة الإسلامية قاموا بالطعن فيها، حتى جاءت اعترافات الغرب نفسه بأن الأسلوب العسكري الصليبي (شكلاً وموضوعاً) وأسلوب الغزو المباشر، باتت خيارات غير مجدية ضد الإسلام أو الشرق، لكن هناك خيارات أخرى أصبحت أكثر نفعاً منهما وأجدى، وهي خلق ما عُرف بـ (ظاهرة الاستشراق).