د.سهام صالح العبودي
قد لا نعرف: كم رأسًا كانت تميل -مؤمِّنةً- كلَّما غنَّت أم كلثوم: «أهل الحبِّ صحيح مساكين»؟ لكنَّ الأمر الذي لا جدال فيه هو أنَّ تلك (المسْكَنَة) كانت تفيض في كلِّ تدوينٍ اتصل بالحبِّ وأهله، وأفصح عن آلامه ولواعجه وأسراره.
جاء في (مصارع العشَّاق): «لما اختلَط عقلُ قيس المجنون وامتنعَ من الطعام والشراب مضت أمُّه إلى ليلى فقالت لها: يا هذه! قد لحق ابني بسببكِ ما قد علمت، فلو صرتِ معي إليه رجوتُ أن يثوبَ إليه، ويرجعَ عقلُه إذا عايَنَك. فقالت: أمَّا نهارًا فلا أقدرُ على ذلك لأني لا آمنُ الحيَّ على نفسي، ولكن أمضي معك ليلًا»(1).
الليلُ غاشٍ، والنَّهارُ واشٍ: هكذا يمكن ترجمة كلام (ليلى) في الرواية الآنفة، وهي أيضًا شهادة الشعراء (العشَّاق) في حقِّ قسيمي اليوم. في ذلك (البرنامج الزمنيِّ) الذي تقترحه (ليلى) لا انفرادَ مخصوصًا يُتعجَّب منه؛ فالليل كان -دومًا- هو حجاب الباغين ستر أمورهم، ومراوغة عدوِّهم، في حين اختصَّ النهار بالإسفار ورفع الحُجُب؛ غير أنَّ الأمر في الأدب كان -دومًا- غير الأمر.
أحفظ بيت (المتنبي):
أزُورُهُمْ وَسَوَادُ اللَّيْلِ يَشفَعُ لي
وَأنثَني وَبَيَاضُ الصُّبحِ يُغرِي بي(2)
شاهدًا متكرِّرًا في دروس (البلاغة) التي كانت (تبلُغنا) مجفَّفة في مصطلحاتها. فأقصى ما أُرينا منه: (مقابلة خمس بخمس)، في حين تغيب دقائق تلك الحركة الحذرة داخل الزَّمن المختطف من الزمن، حين تعيد الغاية تخطيط علاقة الإنسان به، فإذا الليل: ذلك المظلم المخوِّف الموحش يغدو رقيقًا شافعًا، رسم الشاعر هذا المعنى عبر عكس لغويٍّ عاكس، وتناقض غير مؤتلف لكنَّه مؤلِّف؛ رغبةً في أن يقبض قارئٌ على جوهر المعنى: المغامرة المحفوفة بالخطر وهي تلد حيلتها!
ويبدو أنَّ لؤلؤة الحبِّ لا تشعُّ إلَّا بعد أن تتخلَّق في الظلام، وتحت ستار الحرص؛ فالليل قماش ليِّن الأعطاف يكسو الأحوال، ويحجب جسد الموعدة، ههنا في سرديَّة (ابن المعتزِّ) الشعريَّة التي تفيض بالحركة، وتوصلنا بارتعاشات الخوف تلك عبر آلة الزمن الوحيدة التي عرفها الإنسان (اللغة):
وَجاءَني في قَميصِ اللَيلِ مُستَتِرًا
يَستَعجِلُ الخَطوَ مِن خَوفٍ وَمِن حَذَرِ
فَقُمتُ أَفرِشُ ذَيْلِي في الطَّريقِ لَه
ذُلًّا وَأَسحَبُ أَكْمَامِي عَلى الأَثَرِ(3)
فما أكثر ما كان يُدبِّر العاشق كي يضمن أنَّ ما جرى في ليله سيمحوه صبحُ نهاره، ويحكي (السرَّاج) حال المحبوبة وهي تفد ليلًا، مستثمرةً ممكنات الزمن: الظلمة البهيمة المُضْمِرة، زمن متواطئ ضامن أن يفسح -بعد انقضائه- لنهار مقطوع اللسان!
وَفَتْ سُليمى فِيها بموعِدِهَا
إِذْ طَرَقَتْ والظَّلامُ يضْمِرُهَا
وخَافَتِ الصُّبحَ أنْ ينمَّ عَلى
مَكَانِهَا ضَوْؤه فَيشْهُرُهَا(4)
فهذا ليلٌ غير ثقيل، ليل سلامة لا يُعرف كم بات عاشقٌ متمنِّيًا عليه (ألَّا ينجلي)!
وإذا كان الاحتيال يتحقَّق بتحريك زمن الموعدة، فإنَّ ضربًا من الحيل يتحقَّق بتحريك موضع النظر؛ فنظرة العين (شمسٌ فضَّاحة): تحدِّد موضع الاهتمام، وتضع إصبعها على مدار عناية الروح، هي واشيةٌ من الجسد على مستور شعوره، وخائنةٌ منه لا تؤتمن عليه!
في الالتقاء -إذن- التقاء آخر مداره منطق الجسد. فلا قِبل للإنسان بإحصاء الكلمات المدلى بها عبر النظر، أو المفصح عنها في ارتعاشات الحواسِّ!
تلك مناورةٌ أخرى كان على المحبِّين أداؤها مدركين أنَّ صراحة النظرِ قد تورد صاحبها الخطر، وأنَّ لمقام الحذر مقالًا على العين أن تتوخَّاه؛ فتتخلَّى -مكرهةً- عن فصاحتها؛ لتصيب غير المعنِيِّ كي لا يُفتضحَ حال المُعنَّى كما يقول (جميل):
وَلا خاطَبَتْها مُقلَتايَ بِنَظرَةٍ
فَتَعلَمَ نَجْوَانا العُيونُ النَواظِرُ(5)
كم مبتلًى بالحبِّ زحل بنظرته عن منشوده، واتَّقى الإعلام عن مقصوده؛ تضليلًا وتعمية على العيون التي ترقب، كما في حكاية (عمر بن أبي ربيعة):
إِذا جِئتَ فَامنَحْ طَرْفَ عَينَيكَ غَيرَنا
لِكَي يَحسِبُوا أَنَّ الهَوَى حَيث تَنظُرُ(6)
ذلك حُسبانٌ حذِرٌ تحقِّقه عينٌ تائهةٌ لقلبٍ مستدلٍّ قاصد: يناول أعينًا نظرةً لا تخصُّها رجاءَ سرقة مضغة الفضيحة المحتملة من أفواه العذَّال.
لا تنقضي -إذن- حيلُ الإخفاء: فبين أن يخفي المحبُّ جسده في قميص الليل، أو أن يخيط أطراف الرمل على الأثر، أو أن يرسل نظرة إلى غير مأواها، أو أن يمحوَ حبرَ الرسائل الشواهد! يخبر (ابن حزم) في طوقه: أنَّ (إتلاف الأدلَّة) سياسة رشيدة على العاشق اتباعها: «ثمَّ يتلو ذلك إذا امتزجا: المراسلةُ بالكتب. وللكتب آيات، ولقد رأيتُ أهلَ هذا الشأن يُبادرون لقطع الكُتبِ وبحلِّها في الماء وبمحو أثرها، فرُبَّ فضيحةٍ كانت بسببِ كتاب»(7).
ويدرك العاشق أنَّ (وَضَح الكَلام) مكاشفةٌ فاضحةٌ لا تقلُّ خطرًا عليه من (وَضَح النَّهار)؛ فيُعمل الحذرُ مِصْفاتَه في الكلام، وينطقُ اللسان بغير ما هو مخبوء في الوجدان.
يقول الشاعر المصري (السيِّد العديسي):
«كأيِّ صعيدي، لا أستطيع قولَ: أحبُّك
وكلَّما قررَّتُ القفز على التقاليد لأقولَها
خرجتْ: (كيف حالك؟).
فاعذريني لأنَّني: (كيف حالك جدًّا)»(8)
ولا يزال هذا النصُّ يمثِّل -بالنسبة إليَّ- حكايةً شعريَّة عذبة لا أحسب أنَّها يمكن أن تمرَّ بقارئ دون أن يميل رأسه مؤمِّنًا على كلِّ الكلمات التي يرتكبها لسانه مع سبقِ (الإصرار والتحفُّظ)!
إنَّ الحيلة هي ابنة الرجاء، والتحوُّط هو حارس الأمل؛ وإذا كانت الحيلة تستدعي الشفقة، وتتغشَّى بسربال من المسكَنَة فإنَّ الأدب هو شكلٌ من أشكال تجويد هذه المسكنة، وزخرفة تلك الحيلة؛ فإذا المستورُ مُفتضحٌ، والمحجوبُ مستظهرٌ، والحيلةُ مستعرضة، وإذا الخوف مُطربٌ... وإذا المأساةُ لا تُمحل بل تُخصب!
** __ ** ** __ ** ** __ ** ** __ ** ** __ **
(1) مصارع العشَّاق، جعفر السرَّاج، دار صادر، بيروت. 2/181.
(2) ديوان المتنبي بشرح أبي البقاء العكبري، دار المعرفة، بيروت. 1/161.
(3) ديوان ابن المعتزِّ، تح: د. محمد شريف، دار المعارف. 2/250.
(4) مصارع العشَّاق، 2/269.
(5) ديوان جميل، تح: د. حسين نصَّار، دار مصر. ص83.
(6) ديوان عمر بن أبي ربيعة، تح: د. محمد خفاجي، د. عبد العزيز شرف، المكتبة الأزهرية. ص105.
(7) طوق الحمامة في الألفة والألَّاف، ابن حزم، تح: حسن الصيرفي. ص33.
(8) من حساب الشاعر على (FACEBOOK)- (السيد- العديسي).
** **
- جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن