د. شاهر النهاري
كل ما حولنا يتغير، والتغير طبيعة الحياة، وحتى العلوم والمعارف تتغير، بعد أن يتم اكتشاف معلومات جديدة، مثبتة بالتجربة والبرهان، وقبل أن يأتي من يزيحها إلى رفوف القديم المترب، ويضع مكانها نظرية جديدة، يكون ثبوتها أكثر نسبية وتناسبا مع الوقت الحالي عن النظرية السابقة، بتفوقها على التجربة القديمة مهما خالطها من خلط وتحطيم للأسس بحثا عن التفرد.
والجمال مواصفات ومستويات لا تعطي نتائج ثابتة مضمونة دائمة، لاعتماده على عدة مُحكِمات متغيرة بذاتها، تحدد وجوده من عدمه، لكونه بمرور الزمن يختلف، فما كان قمة في الجمال، يصبح معتادا، وربما ينحدر على سلالم الجمال لما هو أدنى، وقد يتجاوز خط الدنو، ليكون أقل من وسطية مظاهر الجمال المثبتة في عصر معين، وبين أشخاص غدت رؤيتهم مختلفة.
الجمال منطقة عاطفية تخيلية، تقع بين عين وقلب الرائي، وبين ما يتم البحث عن زواياه ونقاط الجمال فيه، وهو مرتهن بمن يرى، وكيفية وكنه ما يرى، وهل يوجد عناصر تشجيع واستمرارية مصاحبة لهذا النوع من الجمال، أم أنه موضة عصر عابرة تفرض بالدعايات وغسيل الأمخاخ وإعلام التذوق، وتبديل ذاكرة الرائي، لينسى كيف كان لب الجمال، وأين أصبح.
الجمال نقطة متحركة بين مائلين، تلتزم زوايا الرؤية، وعدد الفلاتر المستخدمة في حدقات وضوء عدسات الرائي، ومخزون تراث من يحكم، كما قدرته على إظهار مواطن الجمال فيها، أو بحثه عن المقارنة أو الضد أو العناد، أو دخوله في صرعات من النشاز تعليه بضربات جنون، وقد يصطاد حينها غربة عين الجمال وندرته، وقد يفتقدها، وقد يهبها منصة علية، أو يتجبر ويطلب من الأعين إطلاق رصاصة القبح عليها.
الجمال ليس مِلكا لعين بذاتها، ولا لعارف بأسس الجمال عن سواه، وكثرة المتذوقين تحكم الجو العام، والإصرار يغلب، والقوانين لا تثبت مستمرة بين الأجيال، أيا كانت منهجيتها أو أكاديميتها، أو قراءتها للتاريخ، أو استنطاق وتحوير حقب ومدارس الجمال القديم، لصنع الجمال العصري، بنظرات خيال، وطموح مجنون، وتعقيد لليسير، أو تليين للمتكلف جريا وراء موضة تلتمع في دور تمرير وتطبيع وتغوير الجمال أو قشريته، التي يكتبها الزمان، والربح، والتكرار، حينما يُعلم الشطار، عكس ما يفهمون.
الجمال رأي متخصص، ولكنه قد يغلب برأي أغلبية، ترى عكس ما تحدده الجماليات، سواء كان جمال وجه أو جسد إنساني، أو لوحة أو نقش، أو منظر طبيعي أو عمل مصنوع، فلعل الأعين، مع التكرار والثبات، أن تصاب بالملل، وتستسلم لعشق المختلف، مهما كان شاذا في بداياته، فبالتطبيع يصبح الأندر والأكثر رونقا، ثم الأعم، حتى يمل منه النظر، بتقليد رسمات ووهم حد الإسراف، أو ملامح وجه حسناء يتم تعديلها نقشا أو جراحيا، حد تطابق التشابه، وفقدان الندرة، ما يغري الأعين بالبحث واستشراف البعيد والغريب، وهجر هذا المتكرر حد الزيف والزهق.
عصرنا عجيب، فتقف أمام اللوحة التجريدية أو الحداثية ساعات، لتقنع نفسك بأنها جميلة، كما يقال ويشاع عنها، وليس لأنك منجذبا لجمالياتها.
ويعجب الرجل بشابة جميلة الجسد والوجه، ولكنه في عصرنا الحالي يقع في فجوة الشك، لكثرة التماهي، بين آلاف الأشباه، وكم يتساءل: أيهن طبيعية، دون شد ونفخ وإضافات ودون شطب، وتعديل يسبب تسريب قطرات الجمال!
ورجل مفتول الجسد، ضخم العضلات، يرى أنه الأجمل، ويمشي على الأرض مرحا متفردا بأجنحة العظمة واللياقة، رغم أنه يماهي الكثير من المنحوتين، ذبحوا أنفسهم بجرعات البروتين، والهرمونات، والحمية والمشدات، التي تدفع نكهة حسن الطبيعة للتردي والإدمان لطاووس ناكر يرنو لتفرد مؤقت، يغطي قبحا قد يكون غالبا.
عصر جديد غريب نعيشه، وبعد أن كنا ممن يؤمنون بـ»إذا بليتم فاستتروا» أصبحت طباع العجب والتناقض والتحضر تحكمنا، رغم إدراكنا أننا بدعوى تحضرنا نعرف أننا نزيف الحقائق، ولكنا نستمر نظهر عيوبنا، لكون ذلك يعطينا مسميات الرقي والحضارة الجديدة، فمن وجد بجسده اختلافا خلقيا، أو إصابة عضوية أو عصبية أو نفسية، يمسح من داخله التردد، ويتم إظهاره في الصور والتعليقات، ومن خلف فلاتر غشاشة، وبما ليس فيه من جمال كينونة، ولكنه جمال حذلقة مختلق مؤدلج يخص عين المرائي المجامل، الخاضع لنظم عصر الزيف الجديد، بتقديم جمال النقص، على جمال المكتمل الطبيعي غير المتكلف ولا المدعي، فندرك أن عصرنا حقبة جمال عجيب ديناميكي شكلي وقتي، يفرض بقوة التكرار، والزن على الآذان، وادعاء إنسانية تذبح تفاح الجمال الحقيقي في أعين البشر، بحثا عن استكمال تشويه وزيف يقلب الطاولة.
الجمال شعور لا يمكن فصله عن الحس الجنسي، سواء كان في ملامح وجه أو جسد، أو حتى فيما يمكن أن يحيط بالجسد، من محسنات وشراشير وروائح ونعومة وألوان، وعناية ورفاهية ودلع.
الطفولة مرتع النضارة الجيني الأصيل، ومعاني الدقة والجذب والملاحة وتجدد نعومة البشرة و العين والشعر والسمسمة والحجم واللون، وهو ما يمثل منابع الجمال الأصيلة.
وقمة أخرى للجمال تحدث في عز روعة الشباب وعنفوان المنتصف، حين يكون الشعور الجمالي حاضرا في نفس صاحبه عن ثقة وبراءة، وتكون التقاسيم مملوحة مكتملة، وتكون النفس مرنة، طرية قابلة للضحكة والحركة النشطة وتقمص الروعة والعاطفة، ودون كثرة تزييف وتزيين.
مرحلة عمرية لا تدوم كثيرا، ولو أن طريقة فقدها، وتدرجها تختلف بين جميل وجميل، وطريقة اعتناء وإهمال، فيأتي من يقول أن لكل سن جماله، وأن لكل حجم جماله، وأن لكل ذوق زمانه، الذي ربما يظهر ويدوم فقط في مخيلة صاحبه، الذي يستمر يتشبث بملابس الشباب، وبما كان يستخدم من محسنات، وحتى لو حصل النقص، بزيادة وزن مفرطة، وبنقص تناسق في الأعضاء وترهل وقوام يختل، ودون احترام للسن، والتغير في الشكل، والنضارة، ونقص محفزات وموارد الجنس، بشكل طبيعي، يحدث حتى للزهرة، التي لا تستمر روائحها ونضارتها، وألوانها الزاهية وعنفوانها كما حين يقترب الرحيل.
الجمال في عين الرائي، وطالما أنه يشعر به حقيقة دون تأثيرات خارجية، فهذا يبقى ضمن حدود المعقول، ولكن وعندما نبالغ في تأكيد وجوده فيما ليس جميلا وفيما طاله التشويه، فنحن نسيء لكل جميل حقيقي طبيعي لا يعود يجد قيمته.
الجمال طبيعة، والقبح أدلجة.