صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
في النساء ليس هناك بعد الأم أعز من الزوجة رفيقة الدرب وأنس الوحشة وأم الأولاد.
والشعراء يفترض أنهم أشد من سواهم إحساساً بالوجود والناس وأن زوجة كل منهم الصق شيء به إلاَّ أننا لا نكاد نظفر في ديوان الشعر العربي بشعر أي شاعر عن زوجته إلاّ أن ينكب فيها. وإن استمرت العيشة الراضية عشرات السنوات. بل إن التراضي بين الشاعر وزوجته من أقوى أسباب عدم الالتفات إلى مكانها في جيرته. فالتراضي بين الزوجين كصحة البنية الحية والإنسان ما دامت أعضاؤه صحيحة لا يشعر بها فإذا أصيب أحدها أحسه وشرع يلتفت إليه وهكذا موقف الشاعر وسائر الناس من الزوجة. لهذا ندر أن نرى في دواوين الشعر العربي نسيب شاعر في زوجته وإن وجد فهي قليلة إذا قيست بغزله في الأخريات. أما رثاؤه لزوجته فيملأ ديوان الشعر العربي.
إلاَّ أننا وجدنا في ديوان الشعر العربي أحد أوحد من تغزل في زوجته والمفارقة أنه قاضي فقيه وأحد أعلام الأندلس الِعظام.
هو القاضي الفقيه الحافظ الأديب أبي الوليد ابن الفرضي: عبدالله بن محمد بن يوسف بن نصر، الأزدي الحافظ القرطبي (351-403هـ/ 962- 1013م).
صاحب كتاب تاريخ علماء الأندلس، وكتاب المؤتلف والمختلف في أسماء الرجال، والمتشابه في أسماء رواة الحديث وكناهم، وأخبار شعراء الأندلس.
كان ابن الفرضي قاضياً تولي القضاء في أكثر من مدينة أندلسية، وفقيهاً ومحدثاً حافظاً للحديث متقنا للعلوم، يُرحل إليه، ومؤرخاً وعالماً يجمع فنون العلم، بارعاً فصيحاً وشاعراً حسن الشعر والبلاغة والخط والجودة، يدل ما وصلنا من شعره على منزلته فيه، وقد احتذاه شعراء آخرون وأخذوا من معانيه، ومن شعره المبني على قيم إسلامية:
أسير الخطايا عند بابك واقف
على وجل عما به أنت عارفُ
يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها
ويرجوك فيها فهو راج وخائف
ومن ذا الذي يرجي سواك ويتقى
وما لك في فصل القضاء مخالفُ
فيا سيدي لا تُحزني في صحيفتي
إذا نشرت يوم الحساب الصحائفُ
وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما
يَصد ذو القربي ويجفو المؤالفُ
لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي
أرجي لإسرافي فإني لتالف
رحل ابن الفرضى إلى المشرق العربي عام 382هـ وأخذ هناك عن العلماء وأدي فريضة الحج، وكان خلال حجه قد تعلق بأستار الكعبة ودعا الله بالشهادة، ثم أراد أن يستقبل الله تعالى، فاستحي ولم يفعل، وقد روي عنه ذلك بقوله: «علقت بأستار الكعبة وسألت الله تعالى الشهادة، ثم انحرفت وفكرت في هول القتل، فهممت أن أرجع فأستقيل الله سبحانه وتعالى، فاستحييت». عاد إلى الأندلس، قتل شهيداً في فتنة سنة 403 بقرطبة، وهو يدافع عن نفسه وبيته، وبقي جثمانه في ساحة داره ثلاثة أيام لم يتغير فيها منه شيء.
وأخبر من رآه بين القتلى ودنا منه، فسمعه يقول بصوت ضعيف: «لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يَثعبُ دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك». كأنه يُعيد على نفسه الحديث الشريف الوارد في ذلك.
ولإبن الفرضى شعر غزل جميل قاله في أسرته حين فارقهم واتجه إلى المشرق من ذلك قوله:
مضت لي شهور منذ غيبتم ثلاثة
وما خِلتني أبقى إذا غبتم شهراً
وما لي حياة بعدكم استلذها
ولو كان هذا لم اكن في الهوى حراً
ولم يسلني طولُ التنائي عليكم
بل زادني وجداً وجدد لي ذكرى
يمثلكم لي طولُ شوقي إليكم
ويدنيكمُ حتى أناجيكمُ سراً
سأستعتبُ الدهر المفرق بيننا
وهل نافعي أن صرت استعتب الدهرا
أعلل نفسي بالمني في لقائكم
واستسهل البر الذي جُبتُ والبحرا
ويؤنسني طي المراحل عنكم
أروح على ارض وأغدو على أخرى
وتا الله ما فارقتكم عن قِلي لكم
ولكنها الأقدار تجرى كما تُجرى
رعتكم من الرحمن عين بصيرة
ولا كشفت أيدي النوى عنكمُ سترا
وفي موضع آخر يقول متغزلاً في زوجته:
إن الذي أصبحت طوع يمينه
إن لم يكن قمراً فليس بدونهِ
ذلي له في الحب من سلطانه
وسقام جسمي من سقام جفونه
** **
- عضو اتحاد كتاب مصر