غالب الذيابي
القصيدة الشعبية وُلدتْ وترعرعت وعاشت على أرضنا لم يسبق أهل الجزيرة العربية أحد على ابتكارها. نسبت خطأً إلى الأنباط، أصحاب الحضارة البائدة في الشام. والصحيح أنها أسميت بهذا الاسم نسبة إلى علم الاستنباط. واستنباط مصدر استنبط، ومعناها استخراج المعاني الخاصة من المعاني العامة. بمعنى أنها استنبطت من الفصحى فكان استناطًا خاصًا من عام فتم انتزاعه من قاموس اللغة إلى قاموس اللهجة العامية. لا أدري من المفكر الذي نسب لغتنا المحلية إلى الأنباط لكنه جانب الصواب في ذلك، وكان اجتهاده ضحل الاستدلال. وقد استنبطت القصيدة الشعبية من الجزيرة العربية وأول من تكلم بها هم بنو هلال. ثم الأمير عامر بن زياد البدراني الدوسري عندما قدموا إليه بنو هلال من جنوب الجزيرة العربية فبالغ بإكرامهم، مما جعل أبوزيد الهلالي يثني عليه بقصيدة بليغة اللفظ رفيعة المعاني فقال:
رحلنا ورحّلنا مساس من القسا
رحلنا شمالٍ والضعون تذاد
والله ماهو شفنا يوم زعنا
ولا هوب من بغضا وضد طراد
شح المراعي والظما يوم ضدنا
والبل تبا المرعى وشرب براد
وليلة وردنا العد عدِّ آل زايد
لا قلت هون من جمامه زاد
ضفنا وضيّفنا ابن بدران عامر
حييت يا غمرٍ فلاحه باد
شيخٍ ذبح بالحال عشرين فاطر
والأكباش ما يعرف لهن عداد
فلا ظلٍ إلا ظل غارٍ من الصفا
ولا شيخٍ إلا عامر بن زياد
ثم إن الأمير عامر نظم قصيدة على نهج بني هلال تتكلم الافتخار بالنفس وببذل الجود والحث على فعله، وقد استنبط معانيها الخاصة من لهجتنا حيث يقول:
يقول بن بدران لو راس ماله
جوادٍ وزرقا في ذبابة عود
بيته على الأطراف يلقى مشيد
الى ما توزوا بالتلاع قرود
ولا ينبني من وسط النذل بيته
والى اتقوا نلقى براس نفود
وإلى نزلوا وادٍ نزلنا مفيضه
ونكف عنهم ما يكون يكود
لنا ديرة ما بين الأفلاج والحسا
وما بين صبحا والسليل وجود
فإلى سندوا يبغون الأسعار فالقرى
حدرنا على مثل الغمام السود
ثم تلاه راشد الخلاوي الذي امتدح عامر بن زياد ببيت لم نعثر على تكملته:
خلت نجد ما يلقى بها كاسب الثنا
سوى ضمين يم واداي الدواسر
ثم سار على نهجهم ناصر الودعاني ابن أخت عامر بن زياد الذي كتب قصيدة مؤثرة في ارتحال البدارين من الوادي إلى أقاليم العارض والمحمل وسدير بقيادة خاله عامر بن زياد فقال:
يا سدرة المغنا على مشرع الصفا
في جال مخضر الجناب قرون
بنشدك ما شفتي هل الجود والصخا
اللي لهم كود الأمور تهون
شدوا وخلوني أجاذب هشايمي
وتحملت مع كثر الغبون غبون
ونيت وناتٍ تحطم لها الحشا
وهلت غزيرات الدموع عيون
أقفو وأنا عيني تخايل نجوعهم
وضعاينٍ يتلا لهن ضعون
يتلون نزال الخطر مرهب العدى
عامر لصعبات الأمور زبون
خالي ولا غيره عزيزٍ رجيته
ارجيه رجوى الممحلين مزون
وبعد رحيل هؤلاء في منتصف القرن السابع انقطعت حبال القصيدة النبطية حتى جاءت سنة 1030هـ فعادت على لسان الأمير رميزان بن غشام التميمي وابن أخته جبر بن سيار الخالدي فاستمرت بعد ذلك آخذة في تشكيل التواصل بين البلدات والبلدان إلى يومنا. فكيف تنسب للأنباط وجهابذتها سكنى الجزيرة العربية؟ وهل سمعت أن أهل الجزيرة العربية يقولون أو يستدلون بقصائد الأنباط أهل الشام؟ هذا ضرب من ضروب الخيال ولا يصح أن يكون تعريفاً للقصيدة التي نتكلم بها ونستنبط معانيها من لهجتنا العامية.
وربما جاء من بين ظهرانينا ممن أخفق في الاستنتاج الصحيح لوضع هذا التعريف الخاطئ، فقد ظهر في مطلع الثمانيات من بعض أساتذة جامعتنا من يحتقر هذا الموروث، وأعتقد أن من عرف القصيدة بهذا التعريف ليس بعيداً عنا!!
فعلى سبيل المثال استضاف المذيع الراحل سليمان العيسى في برنامجه ندوة الأسبوع عبر القناة الأولى الدكتور مرزوق بن تنباك وبسؤاله عن هذا النوع من الأدب عبر بما نصه:
«يجب أن يكون الشعر النبطي مروياً وأن لا يتم توثيقه أو تدوينه ولا يخضع للشرح أو التقعيد حتى لا يتم خلطه بأدب الأمة» (يقصد الفصيح).