د.عبدالله بن موسى الطاير
سيظل الشرق شرقاً والغرب غرباً؛ اليمين الأوروبي المتطرف يكتسح الشارع الصناعي المتحضّر رافعاً لواء حماية تراث أوروبا المسيحي وتأمين حدودها من تدفق المهاجرين. وكما هو الحال مع التطرف بعمومه فإن القضية لا تتعلق بالمسيحية كدين، بل بمعارضة الإسلام ورفض المهاجرين المسلمين في أوربا وبإعلاء العرق الأبيض والتفوق القومي. يشترك في هذه الحركة مسيحيون بيض ولا دينيون أيضاً، ويقول أحد الباحثين الغربيين في هذا المجال: «إذا ما عرّفت الآخر على أنه مسلم، من الممكن أن تبدأ في التفكير في نفسك بوصفك مسيحياً، ولكن المسيحية هنا تعتبر ثقافة أكثر منها ديناً».
التعصب الذي يتغذى على الشعبوية يقلق أوروبا وأمريكا وينخر في العقيدة الليبرالية-الديموقراطية، وقد طفح الكيل برئيس المفوضية الأوروبية السابق جون كلود يونكر فانتقد في آخر خطاباته حول حالة الاتحاد (عام 2018 ) ما وصفها بـ»القومية غير الصحية» في القارة الأوربية، مضيفاً أن «حب الوطن فضيلة، ولكن النزعة القومية الخارجة عن السيطرة مليئة بالسم والخداع».
ينشأ التعصب والتطرف بمجرد الشعور بوجود تهديد ديني (هوياتي)، عرقي، ثقافي أو اقتصادي ناجم عن جماعات تعتبر دخيلة على المجتمع (كالمهاجرين والملونين) ضد السكان الذين يعتبرون أنفسهم أصليين، فيتنادون للحفاظ على الهوية الوطنية، ويتعصبون لذلك. ولم تعد دولة أوروبية بمنأى عن هذه الحركات اليمنية المتطرفة، وقد وصلوا بالفعل إلى سدة الحكم في إيطاليا، وهم في برلمانات عدد كبير من الدول الأوروبية.
يستخدم اليمين المتشدد في أوروبا وأمريكا شبكات التواصل الاجتماعي للترويج لأفكار تروق للسواد الأعظم من البسطاء كإعلاء شأن التحيز الديني، وتقديم أنفسهم مدافعين عن الدين المسيحي، وشد أزر القيم المسيحية لإثارة صراعات مع الأديان أخرى التي تقدم للعامة كمهددات للهوية، وخلط ذلك بالعامل الاقتصادي والمنافسة على الوظائف.
ولدى الجماعات اليمينة المتطرفة شعور قوي بالهوية الوطنية والثقافية يخشون عليه من الانفتاح على ثقافات مختلفة قد تشكل تهديدا للهوية التي تجمعهم وتميزهم، وهو يرفضون فكرة التنوع بتاتاً. وكغيرهم من ذوي الدعوات المتطرفة والمتعصبة يستميلون العوام ببث الشعور بالانتماء والفخر بينهم فيتحولون إلى تيار إقصائي جارف وخطير يجد له مؤيدين مخلصين في المناطق الفقيرة والمهمشة وبين العاطلين عن العمل والمحرومين.
هنا لا نتحدث عن التطرف بمعزل عن الشعور بالقهر والضيم، فهي بواعث تستفز المشاعر وتبقي حالة السخط متقدة في النفوس، ولا أظن طائفة معتبرة من الألمان خالية من الشعور بالهزيمة والغبن والوقوع تحت هيمنة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
ربما نستدعي في هذا السياق الخبر الصاعقة حول اعتزام جماعة الرايخ الألمانية نسف مجلس النواب الألماني، «وتشكيل حكومة انتقالية يعهد إليها مهمة التفاوض بشأن نظام جديد للدولة الألمانية مع قوات التحالف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية ولا سيما روسيا». إنه خبر عن انقلاب في أوروبا على مشارف العام 2023م، من يتصور خبرا مثل هذا؟
ترفض حركة مواطني الرايخ الاعتراف بألمانيا الحديثة، وهم متهمون بالعنف والعنصرية وبتني وإشاعة نظريات المؤامرة، ولا يعترفون بأي حكومة في البلاد منذ انتهاء الحكم النازي، وهم على قناعة ينشرونها بين أتباعهم بأن ألمانيا الحديثة ليست سوى «منطقة إدارية تابعة لقوى غربية هي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا»، ولذلك فهم لا يدفعون الضرائب، ويسكون جوازات سفر ورخص قيادة خاصة بهم مكتوب عليها «الرايخ الألماني»، ويعلنون «مواصلة المعركة ضد جمهورية ألمانيا الاتحادية»، وكما كان الإرهابيون من المتطرفين يرفعون لواء إخراج المشركين من جزيرة العرب، فإن أفراد هذه المجموعة ينادون بتحرير بلادهم، وإخراج المسلمين والمهاجرين الذين يلوثون نقاء العرق الألماني حسب زعمهم، وهم علاوة على ذلك «ينكرون المحارق النازية ويزعمون أن اليهود يسيطرون على العالم» وهي مفردات يشاركهم فيها معتنقو فكر المؤامرة في كل مكان. هذه الحركة التي لم ينتشر ذكرها على نطاق العالم إلا بعد إعلان الحكومة الألمانية عن اعتقالات بين أفرادها. لقد شكلت هذه الحركة «حكومة الرايخ الألماني في المنفى»، وبايعت ملكا لألمانيا في حفل تنصيب مهيب.
التعصب للدين والقومية وعداء السامية، وكراهية المسلمين والردة عن العقيدة الليبرالية-الديموقراطية أفكار متداولة وحركات مؤسسة منذ أمد طويل في أوروبا وأمريكا، ولكن حرَّاس البوابة في الإعلام الجماهيري التقليدي منعوا أفكارها من الوصول إلى الرأي العام الواسع، وحالوا بينها وبين استعمال منابر الاتصال الجماهيري للتعبير عن ميولها والحشد لها. لقد أتاح لها عصر شبكات التواصل الاجتماعي فرصا ذهبية لنشر أفكارها وحشد المؤيدين والمتعاطفين معها، وتحويل منصات التواصل الاجتماعي إلى منصات افتراضية للحشد والتأليب. لقد افترض صانعوا هذه الآليات حصانة مجتمعاتهم، وأملوا في القفز من خلالها على حكومات العالم الثالث ليتولى الشارع قيادة التغيير، لكن التجربة أثبتت أنه لا حصانة لأمة في عصر شبكات التواصل الاجتماعي.