محمد كامل بن أحمد بن عبد القادر القصاب، زعيم من زعماء الحركة الاستقلالية في سوريا أثناء الاحتلالين الفرنسي والتركي، وهو من العلماء العاملين سلفي العقيدة، واقعي التفكير، مجاهد للاحتلال الأجنبي لبلاده بقلمه ولسانه، خدم بلاده كما خدم دولاً أخرى في بواكير نهضتها كالحركة التعليمية في المملكة العربية السعودية، كان ذا عمل دؤوب عرف في حال صباه بالفتوة والمروءة والغيرة على أهل حيه، وكان ناضج الرأي، باراً، برفاقه لا يألو جهده فيما فيه صلاح لأمته، ولد في حي العقيبة بدمشق عام 1290هـ - 1873م، وهو عائد في أصله إلى حمص غير أن والده تركها وانتقل إلى دمشق وبها كان مطلع ميلاده الميمون، نشأ يتيماً حيث توفي والده وهو في السابعة من سني عمره الزاهرة، فكفله جده لأمه المشهور بأبي علي كرم، وهو منحدر من أسرة كانت تمتهن التجارة، تعلم في الكتاتيب، وقرأ القرآن الكريم فحفظه وجوده، ثم نهل مبادئ العلوم العربية والفقهية من علماء زمانه، وشيوخ عصره، فلازم الشيخ عبد الحكيم الأفغاني حيث قرأ عليه الفقه حتى برع فيه، وسمع الحديث من المحدث الشيخ بدر الدين الحسيني وتضلع فيه، وأخذ عن الشيخ أمين الأرناؤوط، وغيره علوم العربية بفروعها وتلقى علم التفسير عن الشيخ محمد عبده أخر وأخذ عن الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية آنذاك، وتشير الكتب التي عنيت بترجمته أنه حين دخل دمشق اعتكف في مسجد على تحصيل العلوم وأمضى في اعتكافه أعواماً عديدة، حتى انهالت عليه العلوم بأسرارها، وتفجرت على لسانه ينابيع الحكمة، بمعانيها، فخرج إنساناً نابغاً العلوم وأخصها علوم العربية والقراءات. هذا، وقد كان التحاقه بالجامع الأزهر الذي نهل العلم من ينابيع أفذاذه عام 1897م، وفيه حصل على الشهادة العالمية وهي يرفل في الخامسة والعشرين من في سني عمره الناضرة، وكان - عليه رحمة الله وغفرانه - محباً للعلماء، ناشراً للمعرفة والثقافة، وبعد عودته من الأزهر رأى الدولة العثمانية تنهار - أسس مع عبد الغني العريسي وتوفيق البساط وعارف الشهابي وغيرهم من رجالات العرب (جمعية العربية الفتاة السرية واشتغل القصاب بالتعليم في مدارس ابتدائية أهلية بضعة من الزمن، ثم ما لبث أن أنشأ المدرسة الكاملية، وتسمى المدرسة العثمانية وهي أهلية، وكانت في حي الدورية وهي من أهم عوامل بعث الروح القومية بدمشق، وصرف عليها من ماله ووقته الشيء الكثير، حيث تولى إدارتها ما يقرب من ربع قرن.وقد كانت فخرية البلاد وقدرتها الدولة العثمانية كل التقدير، وكانت تقبل شهادتها في كليتي الطب والحقوق وغيرهما دون فحص أو امتحان أو اختبار، واشتهر الشيخ كامل القصاب بحزمة في إدارتها، واختار لها معلمين أكفاء مخلصين حيث تطوع للتدريس بها كل من عبد الوهاب الإنكليزي وعارف الشهابي وعبد الرحمن شهبندر وأسعد الحكيم، وآخرون، وكان الشيخ محمد كامل القصاب يعلم فيها بنفسه، ويحذر الناس من البدع والفساد الإداري الجاثم على صدر الدولة العثمانية وقد انتدب الوطنيون الشيخ كامل للسفر إلى مصر للاجتماع بأقطاب حزب اللامركزية كالشيخ رشيد رضا ورفيق العظم وغيرهما ممن يتوقون إلى تحرير البلاد العربية من الاستعمار التركي فدخلها على أنه يريد شراء كتب لمدرسته وقام بالاتفاق على خطط العمل مع أقطاب حزب اللامركزية، وحينما انتهى من مهمته عاد إلى دمشق وبعد وصوله إليها بشهر واحد قبض عليه الأتراك وسجنوه أربعين يوماً، وحاكمه جمال باشا بنفسه وبفضل جراءته وبلاغته وفصاحته استطاع إقناعه من تهمة الاشتغال بالسياسة، وأن موجب سفره لمصر لأسباب ثقافية تتعلق بمدرسته الكاملية فعفى عنه وأطلق سراحه، وقفل عائداً إلى دمشق وحينما بطش الاتحاديون بالزعماء الوطنيين سافر إلى بلاد الحجاز بقصد الحج ونزل ضيفاً على الشريف حسين بن علي الذي اهتم به، وولاه رئاسة مجلس المعارف، وهناك في مكة أراد أن ينهض بالحركة التعليمية فاصطدم مع سياسة الملك حسين الذي كان يحارب التعليم الذي يرى فيه أنه سبب من أسباب انهيار الدولة العثمانية، فلبث الشيخ كامل القصاب في الحجاز سنة ونصف السنة ثم خرج من الحجاز قاصداً مصر بسبب عدم ثقته بالشريف حسين، وخوفاً على نفسه أن يدبر له أمراً يأمر فيه بقتله، ثم نتيجة لبطش الاتحاديين بالزعماء الوطنيين حكموا عليه بالإعدام غيابياً مع سبعة وثلاثين رجلاً جاء الشيخ القصاب في طليعتهم، حيث افتتحت قائمة الإعدام باسمه، فكان مضطراً للتنقل بين مصر والحجاز بسبب مطاردتهم له. وكانت هذه المطاردة والرغبة في إعدامه بسبب تحريضه الناس وجمعهم للتوجه إلى ميسلون إلى حيفا، ثم سافر إلى اليمن وقابل الإمام يحيى حميد الدين سنة 1922م لجمع كيان الأمة العربية، وفي سنة 1925م استدعاه الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - إلى مكة المكرمة وهناك حظي الشيخ هو وإخوانه من العلماء بتكريم الملك لهم وذلك في سنة 1345هـ - 1927م، وعند حجهم شاهدوا ترتبات الحج، مع تأمين سبل الراحة لحجاج بيت الله الحرام، كذلك لاحظوا تحريم البدع التي كانت موجودة في مراسم الحج، مثل ضرب الدفوف والأبواق وغير ذلك من البدع التي منعها الحكم الجديد، فاحترم الجميع سياسة الملك عبد العزيز في الترشيد للحج الصحيح الذي يقوم على منهج النبوة، ولم يقتصر الأمر على هذا بل أوقفهم الملك على عدد من القضايا التي تهم الحاج أثناء زيارته للمملكة العربية السعودية، وهي توفير الأمن الذي كان معدوماً في عهد الأشراف، ونشر المراكز الصحية، وتوفير المياه وغير ذلك من القضايا التي تخدم الحاج من لحظة وصوله إلى نهاية تأديته لمراسم حجه، وانتهت الزيارة بمباركة علماء المسلمين للملك عبد العزيز وحصافته في سدانة الحرمين الشريفين ولم يكن يدور في خلد الشيخ كامل القصاب - عليه رحمة الله - أن الملك عبد العزيز سيكلفه ببناء هيكلة إدارة التعليم في الحجاز، ولإيمانه بمكانة التعليم في نهضة الأمم قبل التكليف احتراماً لطلب الملك عبد العزيز - رحمه الله - إضافة إلى أنه صاحب دراية في بناء المؤسسات التعليمية بسبب ماضي خبراته وتجاربه في هذا المجال، هذا إضافة إلى أن الدولة كانت في أمس الحاجة إلى كوادر علمية متخصصة، فما كان من جلالة الملك عبد العزيز إلا أن فتح كل الأبواب للشيخ كامل لينطلق برسالة التعليم في المملكة، خصوصاً، أنه بعد نجاحها سيعممها الملك في كل مناطق المملكة العربية السعودية، وقد خصصت الحكومة في ميزانية السنة الماضية (3800) جنيه للمعارف، ثم زادتها (2200) جنيه، انفق منها للتجديد والإصلاح (1300) جنية فقط، كما أنشأت مديرية المعارف في السنة الماضية مدرسة ابتدائية وأربع مدارس تحضيرية في مكة، ومدرسة ابتدائية ومثلها تحضيرية في كل من جدة والمدينة المنورة ومدرسة ابتدائية ذات أربعة صفوف في كل من الطائف وينبع والوجه، وفتحت في قرى جدة ثلاثة كتاتيب، وزادت رواتب المعلمين بما يتناسب مع جهودهم، وأنشأ المعهد الإسلامي السعودي في مكة المكرمة، وفيه قسم ليلي تلقى في أرجائه الدروس والمحاضرات، ووضع في المسجد الحرام عشرة مدرسين تابعين للمعارف، يتناول كل واحد منهم راتباً مناسباً يكفي لتلبية حاجاته ومتطلباته، كما تم وضع أمثال هؤلاء المدرسين في الحرم المدني، وأدخل تعليم اللغة الإنجليزية في مدرسة جدة، وفكر القائمون على سياسة التعليم بتأسيس مدرسة لتعليم البنات في مكة وكان الشيخ كامل يرى أن حركة التعليم تسير فيالحجاز بخطى ثابتة واسعة بفضل مساعدة جلالة الملك عبد العزيز وسهره على كل ما يرتقي ويسمو بالشعب السعودي، وبعد أن وضع الشيخ كل شيء في موضعه ورسم خطوط بناء السياسة التعليمية في المملكة واطمأن على نجاحها، قصد العيش في فلسطين إلى جانب أخيه الشيخ عز الدين القسام -رحمه الله، وخلال وجود القصاب في فلسطين كانت بينه وبين الملك عبد العزيز رسائل وكان يخاطبه الملك فيها بتسميته الأخ كامل، وقد كان على صلة بالملك عبد العزيز حتى وافته المنية، ويبلغ عدد المدارس التي أسسها في الحجاز في مدة سنة ونصف السنة ما يقرب من ثلاثين مدرسة.
وفي عام 1937م عاد محمد كامل القصاب إلى دمشق بعد صدور العفو العام فأسس بمشورة أهل العلم جمعية سميت بـ (جمعية العلماء). وأبرز أعمال هذه الجمعية إنشاء المعهد العلمي الديني بدمشق، ولها مواقف عظيمة منها: إلغاء قانون الطوائف الذي وضعه الفرنسيون، فسقطت بذلك حكومة (جميل مردم). وكان الشيخ إلى جانب أعماله هذه تاجراً أسس شركة تجارية في مصر تمارس تجارة المواد الغذائية جزئياً في المضاربة بأمواله، ومن أهم آثاره الفكرية ما يلي: ذكرى موقعة حطين (بالاشتراك). النقد والبيان في دفع أوهام حيزران (بالاشتراك).
وأخيراً
فقد مرض القصاب في أخريات حياته، فلزم داره مدة طويلة ثم شفي، ثم ألم به عارض في دماغه لم يهمله سوى ثلاثين ساعة، وكان ذلك في عام 1373هـ - 1954م، وصادف يوم وفاته اضطرابات زمن الشيشكلي، فصلى عليه بضعة أفراد في بيته وتسللوا بنعشه بين الأزقة، ودفنوه في قبره بمقبرة الباب الصغير وفي جوار الصحابي الجليل بلال الحبشي، بعد أن قضى في خدمة الأمة العربية والإسلامية وقضاياها الوطنية ما يقرب من نصف قرن، وحفظت لنا كتب التراجم سيرته الشامخة والتي ظهر فيه صدق ولائه - رحمه الله- للملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- والشعب السعودي.
- - - - - - - - - -
مصادر الترجمة
- المجلة العربية عدد (528) 1 سبتمبر 2020م - محرم 1442هـ
- عبد الكريم إبراهيم السمك.
- مجلة نور الشام، 25 رمضان 1435هـ الموافق 22 يوليو 2014م. التاريخ الشوري المعاصر.
** **
حنان بنت عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى -
hanan.alsaif@hotmail.com