رضا إبراهيم
مع تعدد أشكالها ونُظمها، أدت الوسائط الإعلامية دوراً توسطياً بعملية التفاعل، كونها شكَّلت وزادت من تنمية صورة جسد الأفراد اجتماعياً، كما استثمرت تلك الوسائط، التدفق غير المحدود للصورة عقب تجميلها، وإعادة بعث حياة جديدة فيها من خلال التقنيات الحديثة، وعملت في ذات الوقت على تشويش الأنساق المرجعية، التي يحتكم إليها الفرد في نظرته إلى نفسه ونظرة الآخرين له، ويؤكد نفرٌ من الخبراء والمختصين في علم الاجتماع، على وجود منفعة متبادلة في الوقت الحالي، أشبه بعقد مبرم بين الجسد والميديا، من الصعب جداً الفكاك منه.
وصورة الجسد تتحكم فيها، بل وتحكمها إلى جوانب المتغيرات الأخرى العلاقة بالآخر، باعتبار أن تشكُّل صورة الجسد تمثل صيرورة اجتماعية، وإذا كانت تلك الصورة تدخل في بناء ملامحها عن الآخر، فقد اتضح أن وسائل الإعلام لا تقل أهمية عن ذلك، وأن وسائل الإعلام تُعد أهم العيون التي يطل منها الفرد على نفسه، ولأن صورة الجسد تمثل ظاهرة اجتماعية، فإن كثيراً منها يجري صناعته وفبركته إن صح القول في أروقة معامل ومختبرات الميديا، وذلك القول يمكن التأكد منه في الصناعات الإعلامية لعارضات وعارضي الأزياء، بدءاً من عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
وهناك من يؤكد على الحضور المكثف لعارضي وعارضات الأزياء بالفضاء الإشهاري تحديداً، يغلبه ظاهرة النرجسية في المجتمعات المعاصرة، ما جعل الجسد يصبح مصدر اهتمام وعناية أكثر تزايداً، حالة استغلاله ليساهم في عمليتي «الإنتاج والاستهلاك»، كما اعتبر الجسد المعاصر عبارة عن شبكة علاقات وإشارات وظيفية معقدة، وعلى ذلك أشار الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي «جيل ليبوفتسكي» إلى أنه وعلى عكس الجمال الفاتن والساحر، فإن عارضة الأزياء تظهر بوصفها تصوراً خالصاً وإغراءً اصطناعياً ونرجسية طائشة، وأن العارضة لا تنتج صورة الجمال الساحر، لكنها تخلق نسخة مشوهة (لعبية وباهتة) للمرأة الفاتنة، وهي بذلك تمثل جمال موضة وأنوثة محتفية بنفسها، لكن مختزلة في الشكل الخارجي.
ومنذ نحو ثلاثة عقود تعدى الإشهار بكثير من الفضائيات الغربية الكثير من التابوهات، لتظهر المرأة على وجه الخصوص والرجل، ولكن بدرجات متفاوتة زادت في الفترة الأخيرة مجردين بأعمال إشهارية كثيرة، وشجعت الميديا باختلاف أساليبها وتعددها تلك الأعمال التي لم تعد أعمالاً عابرة أو نزوية أو حتى غرائبية، لكنها كرست مع مرور الوقت، باعتبارها أفق ما بعد حداثي، ودخلت بصلب الممارسات التسويقية المنتظمة، فنرى اللوحات واللقطات والصفحات الإشهارية، عبارة عن تجليات للمخيال الاستهلاكي، ومن ثم تحولت إلى فضاءات للعرض المتواصل الإغرائي وغير المسبوق للجسد، وقد يلجأ القائمون على الإشهار إلى دفع الناس لفعل الشراء وإلى رمزية التملك المادي للأشياء، فلم تعد حالياً أفعال الاحتفاء بالجسد مرفوضة أو مذمومة، لكنها باتت توجهاً مشكوراً له من الطقوس الخاصة التسويقية، ما ليس لأي منتج آخر، والتي لا بد منها لكي يحدث الإشباع، وفي عالم الميديا لم يعد الجسد موضع شك أو تأثيم وإقصاء، مارسه عليه المخيال الديني، لكنه بات تعبيراً عن المتعة واللذة والوجود في ذلك العالم.
ومنذ بداية ظهورها وحتى الآن تمتعت شبكة المعلومات الدولية، بسهولة ومرونة الدخول إليها، وأيضاً بإمكانية التعامل مع كافة الوسائط المتعددة، كما أن حجم شبكة الويب جعلها أشبه بوحش خرافي وأيضاً الطبيعة التفاعلية للشبكة نفسها، بخلاف صعوبة مراقبة كل ما ينشر من خلالها، وفيما يخص نفس الأمر حملَّت الكاتبة المصرية «آية يحي» وسائل الاتصال مسؤولية اختزال صورة المرأة في كونها جسداً وأكدت في كتابها الموسوم بـ (الصورة المثالية لجسد المرأة بين المشاهير والواقع) على أن الإعلام يعمل على تنميط صورة واحدة لجمال المرأة، ويعمل أيضاً على تسويقه، وكشفت في كتابها عن اختلاف معايير الجمال الأنثوي من زمن لآخر.
وأشارت يحي إلى أن مفهوم الجسد المثالي خلقته وسائل الإعلام المرئية منذ نشأتها، لكنه انتشر نتيجة لتفاعلات الميديا وظهور الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، التي أدت لجعل الجسد أحد أهم بل وأقوى الوسائل من نواحي التأثير والحشد، كما استعرضت المؤلفة في كتابها تلك المعايير التي خلقتها وسائل الإعلام عبر مَرِّ العصور للصورة المثالية عن الجسد، من خلال عرض أبرز حالات الموديلات اللواتي تم الاستعانة بهن في عملية الترويج لمنتجات استهلاكية.
مضيفةً إلى أن الإعلانات المتلفزة وأغاني الفيديو كليب، ساعدت أيضاً على تنميط صورة جمال المرأة بعد أن استُعملت المرأة وكأنها أداةٌ للجذب وطعمٌ لتشجيع الاستهلاك، وتأكيداً على ذلك ظهور كاتبة القصص والممثلة الأمريكية «جيمي لي كرتيس» عام 2002م بعدة وسائل إعلامية وهي بمظهر متألق يخلو من أي عيوب، جذب انتباه الكثيرين إليها، لكن جيمي سريعاً وعقب إحساسها بأهمية التنويه على أن المظاهر التي في وسائل الإعلام ليست واقعية، أعلنت وعلى عكس ما نشرته وسائل الإعلام وأولها شبكة الإنترنت، أنها كانت تملك وقتها دهوناً واضحة في أجزاء كثيرة من جسدها.
ما أوضح وبما لا يدع مجالاً للشك، قيام خبراء الميديا باستخدام تقنيات ونُظم وحواسيب متطورة جداً تقوم بتصحيح العيوب، وإخفاء أي خلل بشكل الجسد، لا يتناسب مع معايير الجمال المفروضة، وأن وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، لا تقوم فقط بتمجيد الأجسام النحيلة، لكنها تقوم بالتشديد على أهمية هذا الشكل، بجانب قيام الثقافات المجتمعية بعدم تمكين المرأة عن طريق جعلها حبيسة لمعايير جمال، من الصعب جداً تحقيقها لدعم مجال صناعة مواد التجميل، وهو مجال مشيد في أساسه على الاستهلاك، الذي لا يتحقق سوى بفرض تلك المعايير التي تقوم بالترويج لهذه المنتجات.
واعتبرت ألعاب الفيديو والكمبيوتر وسيلة من وسائل الإعلام الحديثة، وهناك الكثير من الدراسات التي أجريت للوصول إلى مدى شعبية تلك الألعاب، بين الممارسين لها من كافة الأعمار، وألعاب الفيديو الحديثة ذات تكاليف باهظة جداً، وذات عوالم متخيلة، تمكن اللاعبين خلالها من التحرك ضمنها واختبارها، كما امتد الأمر إلى العوالم ثلاثية الأبعاد المعتمدة على جسد اللاعب من أوله لآخره، فلا يكتفي الفرد بمجرد المشاهدة أو الاستمتاع باللعبة التي يشاهدها، لكنه يقوم باختبار عوالمها عبر امتداد جسده، ليتحول إلى العالم من حولنا إلى لعبة من ألعاب الفيديو الافتراضية، يتم اختباره من وجهة نظر جديدة تماماً، وفي دراسة حديثة قامت بها مؤسسة (عائلة كيزر) الأمريكية اتضح أن (83) بالمائة من الأطفال والمراهقين ممن تتراوح أعمارهم بين (8 - 18) عاماً، لديهم في المنزل جهاز لألعاب الفيديو مثل (بلاي ستيشن وإكس بوكس ونوتودو) مع وجود (4) بالمائة من تلك الأجهزة في غرف النوم.
ولأن مضامين هذه الألعاب تحتوي دوماً على محتويات دموية وجسدية وجنسية عنيفة وفاضحة، قامت اللجنة التجارية الفيدرالية الأمريكية (FTC) بإصدار تصنيف لهذه الألعاب، لتحُد من إتاحتها للمراهقين والأطفال، وألزمت اللجنة كل الشركات المنتجة لألعاب الفيديو الافتراضية، بوضع تصنيفٍ على أغلفة هذه الألعاب على نحو واضح وبارز جداً ليراه أي مستهلك لها، وبالأخص الأطفال منهم، كما أتت تأكيدات علماء النفس والاجتماع بأن المراهقين أو الشباب والفتيات ممن أحسوا بحمل وزر الجسد بعد مشاهدتهم مئات من تلك الألعاب الافتراضية، انتهوا إلى وقوعهم بدوائر من العزلة والانطواء والإقصاء الذاتي، لعجزهم وعدم قدرتهم على إدراك الواقع كما هو، وذلك العجز نتج عن عدم إقامة فاصل بين ما هو واقعي وما هو متخيل، ما يدفع الفرد إلى العيش في عالم يفتقر فيه إلى أفق وجودي واضح، والذي تحتله هواجس تأثيم وتوضيع الذات واستنفارها، للتماهي مع نماذج غير عقلانية، لأنه من الصعب على الفرد أن يتحمل أبداً إدارة ذاته.