عبد الله سليمان الطليان
يمر كل إنسان سواء كان ذكراً أو أنثى بمراحل مختلفة من عمره في تكوين جسده بعد ولادته, وهي تمثل قدرة الله في خلقه, يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} تسري هذه المراحل على البشر جميعاً، طفولة وشباباً وشيبة، في هذه المراحل يمر على الإنسان أحداث ووقائع مختلفة منها السار أو المحزن، نجد في هذه الأحداث أثراً عميقاً لدى كافة الناس، ولكن كيف يكون وقع هذا الأثر على النفس؟ هذا في الواقع فيه اختلاف وتباين كثير جداً، وذلك ناتج عن أن هذه الأنفس ليست متشابهة في تكوينها الفكري والعقلي والجسدي أيضاً في التفاعل مع الذكريات بشقيها المفرحة والسعيدة أو المؤلمة والمحزنة، هذا التفاعل يخضع للبيئة التي يعيش فيها الفرد ومحيطها ومستوى ثقافتها، وتعتبر مرحلة الطفولة هي أهم مرحلة في حياة كل الإنسان لأنها سوف تمثل الأساس في بناء الشخصية التي تؤثر في كيفية تعامله مع واقعه ونمط معيشته.
في مجتمعنا هناك زخم مبالغ فيه لفتح صفحات الذاكرة التي يقتبس منها الفرد سواء كان ذكراً أو أنثى أحياناً للحصول على (كاريزما) شخصية، وهي منتشرة بشكل منقطع النظير، وهي تعتبر في بعض منها عبارة عن محاولة التعويض النفسي ضد حدث سلبي غائر في الداخل في مرحلة الطفولة أو المراهقة مخفي بتعمد، ولعل علم النفس منذ اعتماده كعلم وطب قد أزاح الستار عن أشياء مهمة في حياتنا النفسية التي تؤثر في تأقلمنا مع الحياة ومتطلباتها المختلفة، ومن ضمنها جزئية التعويض النفسي الذي لا يقتصر على جانب القول، بل يمتد أحياناً إلى الشعور الخفي الذي فيه العداوة والغيرة والحقد وحب الانتقام، يمكن أن يؤثر ذلك في السلوك يصل بالإنسان أحياناً إلى الوقوع في جريمة السرقة والقتل.
ذكر النمساوي ألفريد ادلر وهو طبيب عقلي مؤسس مدرسة علم النفس الفردي في كتابه (معنى الحياة) الكثير من المواقف التي تلعب فيها الذكريات دوراً مهماً في عملية التكيف مع الحياة، سنذكر مثلين منها فقط: الحالة الأولى هي لفتاة تقول كانت والدتي تصطحبني معها في كل مكان وأنا في سن صغيرة جداً. والشيء الوحيد الذي أستطيع أن أتذكره عن هذه الحفلات والاجتماعات هو أن الجميع كانوا يحاولون تشجيعي على أن أقول أي شيء مثل النطق باسمى كاملاً.
وما شابه ذلك». يقول الطبيب إن هذا من أكثر الأساليب التعليمية بعداً عن الصواب، حتى إنها تؤدى في كثير من الحالات إلى اللجلجة وغيرها من الصعوبات الخاصة بالكلام، عندما يتلجلج الأطفال فإن هذا يكون بسبب الأهمية القصوى التي وضعها البالغون على ضرورة أن يتحدث الأطفال في سن صغيرة، فإنه بدلاً من التواصل مع الآخرين بطريقة طبيعية وبدون ضغوط فإنه تم تعليمهم بأن يكونوا على وعي بأنفسهم وأن يبحثوا، بل وأن يطلبوا التقدير من الآخرين. تضيف الفتاة «أتذكر أنني عندما كنت ألزم الصمت خلال إحدى هذه الحفلات فإنني كنت أتعرض لكثير من النقد واللوم عندما نعود إلى منزلنا، ولهذا فإنني أصبحت أكره الخروج ومقابلة الناس».
يعلق الطبيب فيقول «من الواجب علينا الآن أن نعيد تقييم فهمنا لذكريات هذه الفتاة، فنحن نستطيع أن نرى الآن المعنى الخفي وراء تلك الذكريات، فهي كمن تقول: لقد تم جمعي مع الكثير من الناس، ولكنني وجدت أنني أكون غير سعيدة في مثل تلك الاجتماعات، وبسبب مثل تلك التجارب فقد أصبحت أكره هذه الطريقة في التعاون» وبدأت أفضل العزلة... ولهذا فمن المتوقع أن نجد أن مثل هذه الفتاة لا تحب مقابلة الناس والاجتماع بهم حتى الآن، لأنها تؤمن بأن الجميع يتوقع منها أن تتكلم طوال الوقت وأن تكون ذات أحاديث جذابة لافتة للأنظار، لقد تم دفعها بعيداً عن الشعور بالمساواة والراحة بين زملائها البشر.
الحالة الثانية يقول الطبيب: رجل في الخامسة والثلاثين من عمره أتى لي وهو يعاني حالة شديدة من القلق العصابي كان يشعر بالقلق عندما يبتعد عن منزله، وبين الحين والآخر كان يجبر على شغل إحدى الوظائف، ولكن ما إن يصل إلى عمله حتى يبدأ في الشكوى والبكاء طوال اليوم ولا يتوقف إلا عندما يعود مرة أخرى إلى منزله ليلاً، فقد كان لا يزال يعيش مع والدته، وعندما سأل عن أول ما يستطيع أن يتذكره من أحداث طفولته فإنه أجاب قائلاً: «عندما كنت في الرابعة من عمري كنت أجلس بالقرب من النافذة أراقب باهتمام حركة المرور في الشارع والناس وهم يعملون...
إنه يرغب في مشاهدة الآخرين وهم يعملون، أما هو فإنه يريد أن يجلس بجوار النافذة، ويكتفي بمراقبتهم. لو أننا أردنا معالجته وتغيير أحواله فإننا لن نستطيع فعل هذا إلا عن طريق تحريره من الاعتقاد المسيطر عليه بأنه غير قادر على «التعاون» مع الآخرين في مجال العمل حتى الآن كان يعتقد أن الطريقة الوحيدة للعيش هي عن طريق الاعتماد على الآخرين في حل مشكلات الحياة التي تواجهه، ولهذا فعلينا أن نعمل على تغيير نظرته للحياة؛ لأن التوبيخ في مثل هذه الحالات لا ينفع، كما أن الأدوية والهرمونات لن تفلح أيضاً في إقناعه.
من خلال تلك الحالتين نستنتج أن لذكريات الطفولة أهمية بالغة في حياة الفرد فيجب على الأسرة أن تدرك أن تربية الأبناء في مرحلة الطفولة يجب أن تكون سليمة إذا أرادت أن يشق أبناؤها الحياة بعيداً عن المنغصات، التي نجد أن الأسر تطمح إلى أن يكون أبناؤها في أفضل حال، ولكن هذه الأسر تفتقد إلى معالجة الذكريات السلبية في الطفولة.