د. منى بنت علي الحمود
إنه اليوم الأخير من مولد مؤتمر الفلسفة الدولي.. والذي جاء بحلته الثانية.. ليحملنا معه نحو آفاق الزمان ونبضات المكان!!.. اليوم مختلف فالزمان ليس الزمان والمكان ليس المكان.. فلعلنا نلقى الكثير في مخيلتنا أو ذاكرتنا أو حتى أمانينا وأحلامنا!!
حملتني مقابسات الزمان والمكان من على منصة المؤتمر إلى نافذة غرفتي.. وأمام منزلنا بمدينة الطائف.. حين يمر موكبه المهيب متجهاً إلى قصره «قصر المؤتمرات» كما كان يسمى.. سيارات حمراء تزف سيارته السوداء وكأنها نواة بينها، كان لها لمعة براقة لا تكاد تغيب عن ذاكرتي حتى اليوم، وكأنما هي انعكاس لألمعية وإشراقة من تقله.. نتسابق جميعاً لرؤيته.. نوافذ سيارته شفافة حتى أن كلاً كان يشعر بأنه يلوح له بيديه خصيصاً.. يوزع نظراته الحانية والثاقبة في الوقت ذاته على صفوف من الجيران وأبناء «الحارة» من المواطنين والمقيمين.. والذين كانوا يصطفون ومن دون دعوة أو حث من أحد، ليصفقوا له ويحيوه عن قرب، يبادلهم النظرات والتحايا بهدوئه المعهود، وكأنه يتمعن أحوالهم.. أصوات الموكب تتداخل مع تصفيق الجموع بإيقاعات خلاقة تحملنا لنعيش بداخلها جوًّا من البهجة والانتماء، بل الولاء لذلك الشخص الأسطورة.. إنه «حبيب الشعب» فهد بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه-، كما أسمته مؤسسة الجزيرة في كتابها بعنوان: «حبيب الشعب»، والذي كان فاتحة إصداراتها من سلسلة «كتاب الجزيرة الذهبي»، وقدم له الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود -رحمهما الله-.. كان له موعد مع «محبة الحكمة» قبل موعد هذا المؤتمر.. فكانت صورته تستقبلني كل يوم عند دخولي مبنى المؤتمر، وأختتم بها يومي عند الخروج!!
غني هو عن التعريف؛ فالمعرفة لا تُعرف إلا بذاته.. هو الملك الخامس من ملوك المملكة العربية السعودية، والابن التاسع من أبناء المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود الذكور.. أول من لقب بخادم الحرمين الشريفين بناءً على طلبه في عبارته المشهورة: «يطيب لي أن أعلن لكم اليوم من مدينة الرسول الكريم عن رغبة ملحة تخامرني منذ شاء الله أن أتسلم زمام الحكم في وطني العزيز، باستبدال مسمى صاحب الجلالة بلقب أحبه، ويشرفني أن أحمله، وهو خادم الحرمين الشريفين».. عرَّاب عاصفة الصحراء.. ومهندس توسعة الحرمين الشريفين.. سيرته لا تختصر، فكل محطة من حياته هي مدرسة تدرس في مجالها على الصعيد المحلي والعالمي.. لمع نجمه في سماء الرياض عام 1340هـ، الموافق 1921م، انعكست حياته العلمية والسياسية على شخصيته المتفردة.. فكانت من أصعب المعادلات أن يجتمع في شخصه حاكماً فذًّا وفيلسوفاً حكيماً.
تلقى تعليمه على يد العديد من العلماء والفقهاء والأدباء الذين لمحوا فيه الفطنة والورع والرصانة وتحمل المسؤولية، عُرف بثقافته وسعة اطلاعه وجزالة خطابه وحبه للتعليم والتعلم، فكان أول وزير للمعارف عام 1373هـ، الموافق 1953م، واستمر في هذا المنصب حتى عام 1382هـ عندما عُين وزيراً للداخلية، وهو خلال شغله لهذا المنصب قد حقق العديد من الإنجازات البارزة، والتي جعلته يعد مؤسس النهضة التربوية التعليمية في المملكة العربية السعودية، وكان هذا كله عقيدة منه بدور التعليم في تحرير العقول ونهضة الشعوب المستدامة، ومن أقواله في هذا الصدد -رحمه الله- «أن التحدي الكبير الذي واجهناه هو نشر العلم والتعليم في جميع أنحاء المملكة دون استثناء، وكان إنشاء جامعة سعودية هو شغلي الشاغل... إنني أعتبر السنوات السبع التي قضيتها في وزارة المعارف من أجمل وأعز أيام حياتي، وما زلت أذكرها بالشوق والحنين، وإن أسعد أيامي عندما أجد رجال العلم والتعليم من حولي أستمع إليهم وأناقشهم».. فكما يقول أحد حكام القرون الوسطى وهو «شارلمان» Charlemagne)- 748- 814): إن نشر العلم من أفضل عوامل توحيد الشعوب، وتحسين أحوالها، وتحقيق وحدتها الثقافية.
ميزته حنكته وقراءته المتعمقة للموقف السياسي، والتي تلقفها من ملازمته لمجلس والده الملك، مما أتاح له خوض التجربة السياسية في سن مبكرة، والتي كان أولها مرافقة أخيه الملك فيصل -رحمهما الله- وهو لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، لحضور الاجتماع التأسيسي لهيئة الأمم المتحدة في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أنيط بالأمير فهد في عهد والده وإخوانه العديد من المهام الدبلوماسية والمشاركات السياسية على النطاق الداخلي والخارجي، فشارك بالعديد من الزيارات الدولية والوفود، كما ترأس العديد منها.
تولى منصب وزير الداخلية لعدة سنوات حتى عام 1395هـ، وكان قد تم تعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء عام 1387هـ، وعندما بويع الملك خالد بن عبدالعزيز بالحكم عام 1395هـ، الموافق 1975م، أصبح خادم الحرمين الشريفين وليًّا للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء، وقد مُنح الثقة السياسية التي يستحقها في إدارة شؤون الدولة أثناء مرض الملك خالد -رحمه الله-.
بانتقال الملك خالد إلى رفيقه الأعلى، تقلد الفهد زمام الحكم عام 1402هـ، الموافق 1982م، وتمت مبايعته من القصر وعامة الشعب، ليبدأ بذلك فجر عهد زاهر، دام ما يقارب ربع القرن حتى عام 1426هـ، الموافق 2005م، مسترشداً بنهج والده في بناء دولة ومجتمع، يسير به نحو أعلى المستويات الحضارية، مستكملاً ملامح الدولة العصرية بوضع النظام الأساسي للحكم، والذي كان بمثابة الدستور، ونظامي المناطق والشورى، وقد تطورت المشاركة الشعبية في عهد الملك فهد، بعد إقرار مشروع الانتخابات البلدية، ومشروع الحوار الوطني، والذي توّج بتأسيسه لـ»مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني» عام 1424هـ، الموافق 2004م، تعزيزاً لتوفير البيئة الملائمة لدعم الحوار بين أفراد المجتمع بأطيافه المختلفة، ومناقشة القضايا الوطنية؛ بما يحقق التفاهم واللحمة الوطنية.
واصل الملك الراحل جهوده في خدمة التعليم، بعد أن أصبح ملكاً، وهو الذي كان راعياً للتربية والتعليم طوال 53 عاماً، فكانت هناك أحداث تنموية تطويرية داخل سياق تاريخ وزارة التعليم السعودية على المستوى الكمي والنوعي، ومنها زيادة حصة مخصصات التعليم من ميزانية الدولة، ومواصلة تطوير التعليم وافتتاح مؤسساته في مراحل التعليم كافة العام والعالي، وتأسيسه لمجلة «المعرفة»، إلى جانب امتداد رقعة هذه الجهود إلى خارج حدود المملكة العربية السعودية بإنشاء الأكاديميات السعودية في عدد من دول العالم، وزيادة تشجيع البعثات إيماناً منه بأهمية التواصل الحضاري والثقافي من خلال بوابة التعليم، وحيث تعد الصحة الرافد الثاني للتنمية المستدامة، ظهرت ملامح النهضة الصحية الشاملة في المملكة في عهده.
كان من المحطات البارزة في حياته، افتتاحه مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، وقد أصدر توجيهاته -رحمه الله- بتوزيع نسخ من المصحف على المؤسسات والمساجد داخل المملكة وخارجها، تشجيعاً لتلاوة القرآن الكريم وحفظه، ويعد هذا المجمع أكبر مطبعة في العالم لطباعة المصحف الشريف، حيث تم إصدار حوالي 300 مليون نسخة من المصحف حتى عام 2019م. ومن اللافت أن خُصص طبعات لذوي الاحتياجات الخاصة من المكفوفين بطريقة «برايل»، وإيماناً منه -رحمه الله- بعالمية رسالة الإسلام العالمية والإنسانية، فقد وجه ببناء العديد من المساجد في أنحاء العالم، كما أسس العديد من المراكز الإسلامية العلمية والمعاهد الإسلامية.
شهدت المملكة في عهد الفهد نموًّا اقتصاديًّا، انعكس في النهضة الزراعية، والاكتفاء الذاتي في بعض المنتجات الزراعية، ومحاولته لاستقرار ملف البترول، إلى جانب استهدافه استكمال خطط التنمية في خضم العديد من التحديات، مع الحرص على إشراك المرأة في جميع عمليات التنمية الوطنية، كذلك الاهتمام بقطاع المواصلات وبالطرق، وشق الأنفاق، وإقامة الجسور، وتطوير الموانئ والمطارات على المستوى المحلي والدولي، وكان فتح طريق مكة المدينة السريع، وإنشاء مطار الملك فهد الدولي في الدمام، ومطار الملك خالد الدولي في الرياض، ومد جسر الملك فهد بين السعودية والبحرين، علامات واضحة لهذا الاهتمام الكبير.
لم يقتصر الاهتمام العمراني لخادم الحرمين الشريفين -رحمه الله- على الحرمين الشريفين فحسب، بل تعدى ذلك الاهتمام إلى مصنع كسوة الكعبة، والمساجد التاريخية والقصور الأثرية بالمحافظة بالعمل على إحياء مكانتها الدينية، وقيمتها التاريخية والثقافية والمعمارية كذلك.
وبسبب بروز دور المملكة العربية السعودية إقليميًّا وعالميّا أصبح هناك حاجة لتعزيز القطاع الأمني داخلياً وخارجياً، فظهر اهتمامه -رحمه الله- بجهازي وزارة الدفاع والطيران (برًّا، وبحراً، وجوًّا) وكان القائد الأعلى للقوات المسلحة، ووزارة الحرس الوطني، والتي أصبحت في ضوء دعمه وقيادة الملك عبدالله قطاعاً شاملاً عسكريًّا وثقافيّا وطبيًّا، وجاء اهتمامه -رحمه الله- بإنشاء العديد من الكليات والمعاهد، لتخريج رجال الأمن، ورفع كفاءتهم وتدريبهم، أما عن محطته في عام 1990م، فنجد «عاصفة الصحراء» و»أم المعارك»، والتي كان هو فارسها وخيالها، فقد جسّدت شخصيته الحاكم الفيلسوف الفذّ الذي تماسك عندما اهتزّ من حولنا العالم؛ فقام بإدارة تلك الأزمة السياسية، واضعاً نصب عينيه أمن واستقرار المواطن السعودي بالمقام الأول ومنطقة الخليج العربي من أقصاها إلى أقصاها.
ويكشف التاريخ عن دور الملك فهد -رحمه الله- في محاولاته تجنيب العراق ودول الخليج والعام العربي والإسلامي تبعات الحرب، من خلال العديد من اللقاءات والتصريحات التي كان يدلي بها إبان تلك الأزمة السياسية، إلا أن التداعيات أبت إلا أن تفرض نفسها على ساحة هذه الأزمة، من خلال عزم العراق وتهديداتها بغزو الأراضي السعودية، مما حمل الملك القائد أن يخوض حربين لتحرير الكويت والخفجي من العدوان العراقي عليها، مستعيناً بأحدث المعدات الحربية والقوى البشرية لتكوين تحالف دولي، وانتهت «حرب الخليج الثانية» بتحرير الكويت وهزيمة العراق، وانسحابها من الأراضي الكويتية، وفرض حصار اقتصادي عليها، وإعادة الحكم الشرعي للكويت.
أشغلته القضية الفلسطينية كقضية عربية وإسلامية، وساهم في العديد من مبادرات السلام لدعم شرعيتها ودعم الشعب الفلسطيني سياسيًّا وماديًّا ومعنويًّا، كما كان مهتماً بتسوية النزاعات الإقليمية والعربية، ومنها ملف الحرب الأهلية في لبنان، والملف العراقي الإيراني، وملف دعم المجاهدين والمضطهدين في أفغانستان والبوسنة والهرسك، وكان -رحمه الله- من أول الدعاة لتأسيس مجلس للتعاون لدول الخليج العربي.
سُطرت كلماته الخالدة.. ورُسمت له العديد من اللوحات.. خلدت سيرته العديد من الكتب والمؤلفات وأدبيات الشعر والنثر.. ولا أقول إلا أن من يصنعون التاريخ كالملك فهد بن عبدالعزيز، لم يكونوا أناساً من المحظوظين؛ بل هم أشخاص يفعلون شيئاً ما بطريقة مختلفة عمّا يفعله الآخرون.. ولما كانت الفنون هي وعاء التاريخ، وحق لي أن أزعم ذلك، جاءت هذه الصورة للملك فهد مثيرة لذاكرتي.. وكأنها تجسدت مسيرة الفهد تخليداً لتلك السيرة العبقة وتلك القامة الشامخة.. رحم الله خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، وأحسن مثواه وطيب ثراه.