د.فوزية أبو خالد
تذكير
تحدثت في مقال الأسبوع الماضي عن العلاقة بين الشعر الفصيح والشعر الشعبي من خلال جدل تلك العلاقة على الساحة الثقافية بالمجتمع السعودي في ثلاث مراحل مفصلية تراوحت من الستينيات الميلادية مرورا بالثمانينيات والتسعينيات إلى الوقت الحاضر. ورأيتُ أنها تمثلت في المد الصحوي، المد القومي العروبي قبله، والمد التنوعي والذي نتج عنه موجة جددت للشعر الشعبي مجده بتنامي مد قصيدة التفعيلة النبطية بجانب الشكل العامودي لها وبتجديد دماء الشعر النبطي بمجازات وصور غاية في العصرية والتفاعل مع الحياة المدنية المعاصرة بما انعكس على إعادة إنتاج رموز الحياة الصحراوية ورموز الماضي في أشكال إبداعية غير معهودة.
وفي المقال السابق ذكرتُ كيف «عوض الشعر النبطي من خلال ماعرف على ساحة الثقافة السعودية بـ»طفرة الشعر الشعبي» حالة غياب الشعر الفصيح الحديث» التي عانت منها الثقافة بالمجتمع السعودي وعانى منها الشعراء الشباب وقتها نتيجة الاستبعاد المتعمد والملاحقة التي مر بها الشعر الفصيح الحديث أمام ضراوة حملات الصحوة. ومع أن جزءا من حرب الصحوة على الشعر الحديث كانت تتحجج بغيرتها على المجتمع من قيم الحداثة وبغيرتها على اللغة العربية الفصحى من التجديد الشعري، فإنها وللمفارقة لم تستطع أن تقف في وجه تمدد ظاهرة الشعر النبطي وتجديدها الذي طالما كانت تعده نقيضا للغة العربية الفصحى. وقد يكون موقع القصيدة النبطية العميق في الوجدان الشعبي تاريخيا وحاضرا وارتباط تجديدها بالوعاء القبلي للمجتمع وببعض رموز القوى الاجتماعية المؤثرة قد أعطاها منعة أمام التحامل الصحوي الذي بدا معاديا للإبداع وللتجديد معا.
وقد وجدنا أن نهاية الثمانينيات الميلادية وبداية التسعينيات التي شهدت ذروة التضييق على الشعر الفصيح الحديث وكل أدب ورموز الحداثة، قد شهدت لحسن الحظ و لئلا يغيب الشعر تماما عن أرض الشعر توسعا لمد شعر نبطي حديث تجلت في عدد من المطبوعات التي جددت العهد بالشعر النبطي وحولته من الشفاهية المعتادة إلى أوعية الكتابة فأضافت للتواصل السمعي معه تواصل القراءة بما تحمل الكتابة والقراءة من طاقات تفاعلية عميقة. وقد قمتُ في المقال السابق بتوثيق معظمها من المختلف التي صدرت نهاية الثمنينيات إلى فواصل التي صدرت منتصف التسعينيات. وهنا أقدم طيفا من أسماء الشعراء والإعلاميين الذين قامت على أكتافهم أو خرجت من أقلامهم وقرائحهم الشعرية موجة الشعر النبطي الحديث.
* * *
استئناف لأطروحة المقال
من هؤلاء الشعراء ومعهم شاعرات الذين شكلوا مشهد الشعر النبطي الحديث خاصة في التواريخ المختطفة المشار إليها نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات الميلادية المثال المحدود من الأسماء التالية، وإن اختلف ترتيبهم الطليعي تجربة وعمرا عن الوارد هنا والذي يرجع تاريخ بعضهم للسبعينيات ميلادي كالشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن/ فهد عافت/نايف بن صقر/ سليمان المانع/سعد علوش/ حجاب بن نحيت/ خلف بن هذال/ محمد نافع/ سعد الجذلان/ الأمير خالد بن يزيد/ محمد جار الله/ الأمير عبدالرحمن بن مساعد/ محمد آل الشيخ/عابر/نايف الرشيدي// إبراهيم الخالدي/ خلف الحربي/ مسفر الدوسري/ هاني الشحيتان/ عبدالله ناصر العتيبي/ ضيدان بن قضعان/ سلطان الهاجري/ حامد زيد/ الأمير سعود بن عبدالله/ طلال الرشيد/ مساعد الرشيدي رحمهما الله، وسواهم بالطبع.
ومن بعض أسماء شاعرات تلك الموجة من الشعر النبطي الحديث لتلك الفترة الزمنية المعنية بنت أبوها/ تنهات نجد/ مشاعر نجد/ بنت نجد/ فتاة نجد/شاعرة الأصايل/ رهينة نجد وهي نورة السبيعي// ريلام المطيري/ شواهق نجد/ لولوة الدوسري/ عيدة الجهني/ساقية عطر قسمة العمراني/ عيون المها/ بشاير المقبل الملقبة بخنساء الشعر النبطي/ لولوة العتيبي المعروفة بقهر يزيد ونبض المطر وبتجايل معهن الشاعرة ريمية وهي حصة هلال حازت فيما بعد على مركز مميز في برنامج شاعر المليون، وبالتأكيد هناك أسماء شاعرات نبطيات أخريات تواجدت في تاريخ المملكة الحديث على سبيل المثال الشاعرة مشاعل بنت عبدالمحسن/ غادة الصحراء والشاعرة سلطانة السديري والشاعرة ثريا قابل، بالإضافة لأخريات في أجيال لا حقة مما لم يسعفني البحث لتحقيق عدد أكبر من أسمائهن.
وإن كنت هنا أُحيل إلى واحد من أهم المراجع الأدبية-العلمية الموثقة في هذا المجال لحقب متعددة وهو كتاب «أصوات الصحراء» للباحثة الجادة المبدعة د. منيرة الغدير وهناك بالطبع كتاب (شاعرات من البادية) للـ أ. عبدالله بن رداس، والجزء الثاني من كتاب منديل الفهيد، وكتاب مهم آخر بهذا الصدد للـ أ. محمد سعيد كمال وعنوانه الأزهار النادية في أشعار البادية. وكلها جهود واعية ومخلصة لتدوين ما أمكن من شعرنا النبطي وحفظه من محو الشفهي
* * *
رابعا
كيف تحولت علاقة التعالق أو القلق بين الشعر الشعبي والشعر الحديث إلى ريشة حرية في تجربتي الشعرية الخاصة؟
كنتُ مطلع التسعينيات الميلادية بعد حرب الخليج الثانية ولازال المناخ موحشا بعض الشيء خاصة على النساء بقليل في زيارة أولى لملتقى الشاعرة سلطانة السديري الأدبي، وقد أتيت حرصا على حضور «أمسية شعر نبطي» بادرت بالدعوة لها الشاعرة سلطانة، وكانت الأولى من نوعها بالنسبة لي وبالنسبة للمجتمع السعودي ربما بمدينة الرياض بما كاد يشكل خروجا وقتها عبر الشعر النبطي لمعتاد الندوات الدعوية الشائعة بين نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات في تجمعات النساء البيتية بالسعودية. وفي ذلك اللقاء التقيتُ عددا من شابات بأجيال متقاربة مع جيلي وبعضها بعد جيلي بجيلين من شاعرات الشعر الشعبي أو القصيدة النبطية.
في تلك الأمسية استمعتُ لشعر نبطي أغلبه مشغول بلهجة أقرب للبدوية بتنوعها وتقاربها في المملكة إلا أن المفردات والصور في مجمل ما ألقي من القصائد كان الكثير منها جديدا وكانت بلا ريب في عمومها تنتمي إلى جيل التسعينيات المعاصر وهي وإن كانت تشترك مع الشعر النبطي التقليدي في واحد من أعرق أغراضه وهو غرض الغزل والفخر، إلا أنه بدا في تلك القصائد تعبيرا أيضا عن غرض من أغراض الشعر التاريخية العالمية الخالدة وهو «التشبب» والتعبير عن الحب بأنواعه وخاصة العشق والوله والحس الوطني. وقد عبرتُ للشاعرات حينها معابثة عن مفارقة تزييهن العصري بأحدث صيحات الموضة ليس مقابل العباءة والنقاب التي دخلن بها فقد كانت تلك مفارقة عامة يشترك فيها معظم النساء في السعودية ولكن مفارقة ذلك التزيي العصري مع مايلهجن به من شعر نبطي شعبي من ناحية، ومن الناحية الأخرى تلك الروح التجديدية في الصور والمفردات وفي شكل القصيدة في تنقلها بين إيقاع الشعر الحر (التفعيلة) وبين العامودي. غير أنهن رددن لي المفارقة معابثات أيضا وهي في رأيهن مفارقة أن تأتي شاعرة لا تكتب إلا الشعر العربي الفصيح الحديث وتحديدا مايسمى بقصيدة النثر الأشد تطرفا حداثيا وقتها لتحضر أمسية للشعر الشعبي/ النبطي. أما المفارقة الأقوى فهي أن تلك الأمسية لم تنته إلا وقد جمعت القصيدة النبطية مع قصيدة النثر على منصة واحدة بما يجمع بينهما من اهتمام بالتفاصيل وبالعادي في إيقاع الحياة اليومي، ومن افتتان في بهرجة الصور الجديدة وجموح الأخيلة، وبما يفرق بينهما من قلق الأسئلة في جدل العلاقة بين الشعر الفصيح والشعر الشعبي الذي ليس من صالح الشعر أن يتوقف طالما بقيت الحرية منشود الشعر أنى تنوعت أشكاله.
* * *
ختام
طبعا مداخلتي هذه ليست موقفا شخصيا تصالحيا بين الشعر الفصيح والشعر الشعبي ولكنها محاولة شفيفة للاعتراف بالقلق المعرفي التاريخي في العلاقة بين الشعر الفصيح والشعبي وللاعتراض عليها لما تنطوي عليه من حمولة التراتبية والتنافسية مقابل ما أراه من حق التنوع الجمالي في الشعر كما في الحياة.
بقي أن أقول: إنه أمر يستحق الرصد البحثي سيسولوجيا وشعريا في الصيرورة التي يمكن أن يتحول نحوها جدل العلاقة بين الشعر الفصيح والشعر الشعبي في الوتيرة المتصاعدة اليوم لتلاشي فوارق المعيشة والتعليم والثقافة وأشكال التنقل والسفر بين شعراء الشعر الفصيح والشعر الشعبي في بيئة المجتمع السعودي التي اختفت فيها أوكادت حياة البداوة وانزاحت فيها الحدود بين حياة الصحراء وحياة الحاضرة. وهذا مستوى آخر من الجدل والقلق معا لن يحل إلا بجرأة الأسئلة.