مشعل الحارثي
وأنا أبعثر بعض أوراقي القديمة سقط بيدي قصاصة صحفية لكاتبها السابق بمجلة الحوادث اللبنانية إبراهيم أبو ناب يتحدث فيها عندما التقى بمحض الصدفة بصديقه القديم المقيم بجدة (أسعد حجازي) الشهير (بأبو نمر) في فندق الكندرة بجدة فأراد الأخير أن يكرم صديقه وضيفه فقرر أن يصحبه في اليوم التالي لزيارة الطائف وكان ذلك عام 1974م.
وعن هذه الزيارة يصف الكاتب أبو ناب في مقاله الطائف عندما رآها لأول مرة فيقول: في الصباح صعدنا الجبل(1) أعلى من جبال لبنان، والطريق من جدة إلى الطائف معجزة هندسية أوتو ستراد(2) مثل الليرة الذهبية يتعرج كالأفعى بين تلك الجبال الصخرية الشاهقة وكأنه هو ذاته منحوت عبر تلك الصخور نحتاً وخلال مسافة (75) كيلو متراً لا تحس بالصعود مثل طرق جبل لبنان وإنما تجد نفسك فجأة في الأعالي وتحتك الوديان العميقة، جبال جرداء تميل إلى السواد كأنها بركانية لا أثر فيها لشجر أو نبات. وتوقفنا لدى عدد من الرجال الذين يبيعون الماء في قلل فخارية معروضة على نسق واحد ولاحظت كم يتفنن الناس في عرض الماء وإبراز تقديرهم له وقلت لصاحبي وأنا أرشف من ذلك الماء العذب (3) (لا يمكن للمرء أن يكوّن فكرة عن هذه البلاد حتى يراها) إنها في مخيلة الكثيرين صحراء لا أكثر. وقليلاً ما تخطر الجبال على بال وقال لي: (إنك تستغرب إذا قلت لك إن في الجنوب بلاداً أجمل من سويسرا ذاتها) والأوتوسترادات تمتد الآن إلى هناك.
ونظرت حولي بين القمم والوديان وأنا أتخيل ما كانت هذه المناطق تتركه في نفوس العرب ومخيلاتهم في قديم الزمان وقلت له: (الآن أعرف ما كان العرب يعنيه بالجن وعزيفهم فالمكان بدون هذه الطريق موحش وهو أشبه ما يكون بمأوى للجن ). وقال لي صاحبي: (إلى عهد قريب كانت هذه الجبال ملأى بآلاف القردة الكبيرة والصغيرة وفي إحدى المرات لحق بنا قرد مثل الغوريلا ولكن وجهه كوجه الحمار )، وصمت قليلاً ثم قال ولكن أنتظر حتى نصل إلى بلدة (الهدا) إنها مصيف رائع وفيها الآن آلاف المصطافين في الخيام. الحكومة منعت فيها البناء حتى يتم تخطيطها وتكون مدينة نموذجية.كان عرق جدة قد جف والنسيم العليل يخفق كما يفعل في أحسن المصايف.
ويمضي الكاتب في وصفه إلى أن يقول: دخلنا مدينة الطائف صباحاً وكان أكثر ما رأيته من الفاكهة هو (الصبر) أو (الصبير) أو كما يسمونه في مصر (التين الشوكي) ولم أرَ أحلى منه ولا أكبر، كان لذيذاً وبارداً وأكلنا منه مثلما كنا نأكل في نابلس، ورام الله، والقدس وقال لي أبو نمر: (إنهم يسمونه هنا البرشوم).
انتهى وصف الكاتب وأنا أقول إن التين الشوكي (البرشومي) من المنتجات الصيفية التي تجود بها جبال الطائف ويكثر تواجده في منطقتي الشفا والهدا ومناطق جنوب الطائف كبلاد بني سعد وبالحارث وثقيف وبني مالك، وهو لا يكلف كثيراً في زراعته لاعتماده على مياه الأمطار ولذلك كثيراً ما يطلقون عليه طعام الفقراء لكثرة انتشاره في الجبال، وقد أثبتت بعض الدراسات الطبية بأن ثمرة التين ألشوكي تحتوي على العديد من المواد والفيتامينات التي تساعد على تقوية المناعة المكتسبة للجسم للحد من الإصابة بمرض سرطان المصران الغليظ والبروستاتا لدى الرجال والمساعدة على الهضم ويحتوي على سكريات وفيتامينات بنسبة تصل إلى 19 %، وهذه الفاكهة الصيفية عرفت أيضاً في دول شمال إفريقيا تونس الجزائر المغرب باسم (الهندي)، والبرشومي الطائفي منه نوعان (القبوري) الذي يمتاز بطول الثمرة ولونها الأحمر القاني و(الشفوي ) ذو الحبة القصيرة والمدورة والمائلة إلى الإخضرار والذي يطلق عليه البعض أيضاً اسم (المكعبر).
وينصح الكثيرون بعدم الإكثار في أكل البرشومي إلى درجة الشره في الوجبة الواحدة واتباعه بالماء لما قد يسببه ذلك من إمساك شديد واضطرابات في الأمعاء وهو ما حدث مع الشاعر إسماعيل الرافعي الطبيب بمستشفى أبها الأسبق الذي وصف ما حدث له عندما أكل بشراهة منه ولم يتبعه بشرب كميات كبيرة من الماء فيصف ذلك في قصيدة شعرية قال فيها:
ماذا أسأت إليك أيها (البرشومي)
حتى تثور على الفتى المكلوم
قد كنت مغتبطاً بدونك هانئاً
فأتيتني متسربلاً بهمومي
مازحتني يوماً بمغص فاتر
فظننت أنك لست ضمن خصومي
فقبلت منك أذية خفت على
نفسي الرضية ساخراً بوجومي
كأني أنا المطروق دونك بالذي
طرقت به دوني فعيني تهمل
ويمضي الشاعر في قصيدته متأوهاً مما أصابه من الآلام وهجره لأطايب الطعام فيقول:
إني هجرت الطيبات مفاخراً
بلذيذ طعمك ذي الأسى المكتوم
قد كنت منتظراً قدومك منعشاً
للنفس من ظمأ الهوى الملجوم
ناشدت قربك طامحاً ومهللاً
فأتيتني بضراوة المحموم
ماكنت أحسب أن حبك قاتل
حتى رزئت بوخزة المظلوم
إن كان خصمك عابثاً ومشاكساً
فأطعمه منتصراً نوى (البرشومي)
وما أن يهل صيف الطائف حتى ينشط أهل الشفا في الترويج والتسويق لإنتاجهم من (البرشومي) من خلال عرباتهم الصغيرة أو بسطاتهم المتواضعة والبسيطة جداً والمنتشرة في الأسواق والشوارع العامة وسوق الخضار والفاكهة ونراهم وهم يرددون لترويج منتجاتهم بعض الأهازيج والعبارات الشجية التي تلج الأسماع كقولهم (يا مال الشفا) و(شفوي يا ولد) لاستقطاب ولفت أنظار الناس لبضاعتهم وإنتاجهم المميز من هذه الفاكهة التي تشتهر بها الطائف دون سواها.
___________________
(1) جبل كرا،
(2) اوتوستراد الطريق العريضة ثنائية الاتجاه،
(3) يقصد مياه المعسل المندثرة بجبل الهدا.