عبدالرحمن الحبيب
لم يعد ضعف الذاكرة مقتصراً على كبار السن كما كان سابقاً، بل أصبحنا نرى شباب وشابات في عمر الزهور يفوقون الكهول في النسيان.. يبدو أن مخزن الذاكرة لم يعد يتسع لشلالات من الأخبار والتحليلات والمعلومات ومقاطع الفيديو التي تنهمر علينا جميعا، وإن كانت على الشباب أكثر.. معلومات فائضة وغير موثقة تنهمر عليك كل لحظة: شاب يرمي نفسه من جسر.. أب يسلخ رأس ابنه لأنه رسب بالامتحان.. أخبار خطف وقتل.. ضحايا كوارث طبيعية.. معلومات عن مسببات الأمراض في الغذاء يليها معلومات مناقضة عن مجنبات الأمراض.. إفلاس أكبر شركة في البلد.. انهيار متوقع لسوق الأسهم.. ركود اقتصادي قادم.. وهلم جرا..
كان يقال عن ثورة المعلومات، ثم صارت انفجار المعلومات، والآن أصبح يقال تسونامي المعلومات أو «عالم مجنون من المعلومات» كما وصفها آدم براندنبورغر (جامعة نيويورك).. يقول جوي نوفيك: «المعلومات في العالم تتضاعف كل يوم. أما الذي لم تخبرنا به هو أن حكمتنا تنخفض إلى النصف بنفس الوقت» أو كما قال المفكر جاك دريدا: «المعلومات تزيد والمعرفة تقل».
وسائل التواصل الاجتماعي هي رأس حربة تسونامي المعلومات والأخبار، حاملة راية «الترند» كل يوم لحدث كبير عالمي أو إقليمي أو محلي يكون هو حديث الناس، وحين يمر يوم أو يومان يغدو قديماً ثم ينسى، أما بعد أسبوع فربما لا أحد يتذكره كأنه لم يكن أو كأنه حدث في زمن سحيق.. فلا تكاد تستوعب الحدث المدوي حتى يأتيك حدث آخر، وما يأتي سريعاً يذهب سريعاً.. «ثمّة رابط سرّي بين البطء والذاكرة، كما بين السرعة والنسيان» كما جاء في رواية «البطء»، للروائي ميلان كونديرا.
قبل أكثر من نصف قرن (1971) انتبه عالم النفس الاقتصادي هربرت سيمون لظاهرة كثرة المعلومات وضعف التركيز عندما كتب عن ندرة الانتباه في زمن انفجار المعلومات: «في عالم غني بالمعلومات، فإن ثروة المعلومات تعني ندرة في شيء آخر: ندرة كل ما تستهلكه هذه المعلومات. ما تستهلكه المعلومات واضح إلى حد ما: فهو يستحوذ على انتباه متلقيها. ومن ثم فإن ثروة المعلومات تخلق فقرًا في الانتباه والحاجة إلى تخصيص هذا الانتباه بكفاءة بين الوفرة الزائدة لمصادر المعلومات التي قد تستهلكه».
ما يريد سيمون قوله إن مصممي نظم المعلومات أنشؤوا أنظمة تقوم على توفير كم هائل من المعلومات دون تصفية المهمة منها والأقل أهمية وغير المهمة، فلم يميزوا بين ندرة المعلومات وندرة الانتباه.. فالمعلومات تتزايد والمثيرات تتكاثر فيما التركيز ينخفض فيصبح المهم من الناحية الاقتصادية هو جذب الانتباه والاهتمام للترويج للسلع وتحقيق الأرباح.
شاع بعد ذلك تشخيص سيمون حول مشكلة زيادة المعلومات على حساب التركيز والانتباه، ومنذ منتصف التسعينات تم تبني مصطلح «اقتصاد الانتباه» (Attention economy)؛ وهو نهج في إدارة المعلومات يعامل فيه انتباه الإنسان كسلعة نادرة، ويطبق النظرية الاقتصادية إلى حل مختلف مشكلات إدارة المعلومات. أما الآن، في هذا العصر الرقمي، فإن انفجار المعلومات ظل يتسع أكثر فأكثر ليصبح الانتباه العامل المحدد في استهلاك المعلومات، فقدرة البشر العقلية محدودة، وبالتالي فإن تقبل المعلومات محدود أيضاً، فيستخدم الدماغ البشري الانتباه لتصفية المعلومات الأكثر أهمية من بين مجموعة هائلة من المعلومات.. لذا تسعى كافة نظم المعلومات (من تطبيقات برمجية ومنصات ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات التجارية) إلى لفت انتباه وجذب اهتمام وخطف أعين المستخدمين بشكل مكشوف أو مبطن. تستطيع، أيضا، هذه النظم التعرّف على تفضيلاتنا عبر الخوارزميات، وبالتالي إدارة الإعلانات وتوجيهها بشكل يضمن إدامة استهلاكنا، وبإمكانها من خلال تلك الخوارزميات التعرف على تفضيلات جديدة ومن ثم دعمها لضمان استمرارية الاستهلاك.
لفت الانتباه هو سلعة، والمستهلك هو المنتِج في آن معا.. فحين تقوم مواقع الإنترنت والتطبيقات بجذب انتباهك من أجل الإعلان، فأنت لا تدفع مقابل خدماتها (فيسبوك، واتساب، تويتر، انستجرام، تك توك..) فعبر لفت انتباهنا إلى محتواها، تقوم هذه المواقع والتطبيقات «ببيعنا» إلى المعلنين..
هل أنت فعلاً بحاجة لشلالات المعلومات والأخبار التي تنهمر عليك كل ثانية، رغم أنه يقال «المعلومات قوة»؟ هل وصل بنا فائض الوقت والتركيز أن نقرأ يومياً معلومات تفصيلية كترتيب الجودة لعشرات الأصناف من المياه والقهوة والعصائر؟ ما المفيد في معرفة تفاصيل الحوادث أو الكوارث الطبيعية يومياً؟ من الواضح أن كثرة المعلومات لا يصاحبها إلا معرفة قليلة وربما غير نافعة عملياً، يقابلها وقت ثمين يضيع من حياتنا.
لكن لماذا نحن شغوفون بالأخبار؟ «لأن الأخبار للعقل مثل السكر للجسم: شهية، سهلة الهضم، ومدمرة على المدى الطويل». كما يقول المفكر السويسري رولف دوبيلي الذي كتب: خلال اثني عشر شهرا الأخيرة، من المحتمل أنك استهلكت عشرة آلاف قصة خبرية، بمعدل ثلاثين خبراً في اليوم.. كُن صادقاً وأميناً مع نفسك، ضع عنواناً واحداً من هذه الأخبار، واحداً فقط، جعلك تتخذ قراراً أفضل لحياتك، أو لمهنتك، أو لتجارتك، بالمقارنة فيما لو لم تسمع تلك الأخبار. لا يوجد شخص سألته قد تمكن من تسمية أكثر من قصتين خبريتين مفيدة من بين عشرة آلاف قصة.