(1)
وردتني مكالمة هاتفية صادمة من إنسان يسكن قلبي وذهني، يشعرني فيها برحيل الصديق الكبير محمد العبدالعزيز العمير إلى رحاب الله.
لقي أخي وصديقي وجه ربه العظيم مساء يوم الجمعة الموافق 9 ديسمبر 2022 بين يدي زوجته الفاضلة السيدة موضي السويلم (أم طارق) التي شاركته حياته وطموحه، وتنفست معه حلو الحياة ومرها.
كان لزوجته الكريمة دور كبير في دعمه ومساندته والوقوف معه وإلى جانبه في مواجهة تحديات الحياة، وويلات الزمن بعقل وصبر وإيمان.
هو الأخ الأكبر لأشقائه الأربعة، وشقيقاته الست، وكان له دور كبير في احتوائهم جميعاً وفي تنفيذ توجيهات والديه -رحمهما الله - في إرشادهم وتعليمهم والعبور بهم إلى حياة جميلة ومستقرة بعد وصولهم إلى المرحلة التي تمكنهم من اتخاذ القرار الأنسب والطريق الأسلم في الحياة.
كان حنوناً, رقيق المشاعر...
وكان بمثابة الأب لأشقائه وشقيقاته ولأولادهم...
وليس أخي من ودني بلسانه
ولكن أخي من ودني في النوائب
(2)
نشأت علاقتي الحميمة مع الفقيد الغالي قبل ردح طويل من الزمن، ومن خلال شقيقه المهندس عمير العمير الذي كان يدرس في مدرسة اليمامة نهاراً, ويعمل في مطار الرياض ليلاً. تعامل معي حينما أشرقت علاقتي معه بروحٍ أبوية جميلة في بعض الأحيان، وبروحٍ أخوية رائعة أحياناً أخرى, ولم يبخل علي بالنصيحة والتوجيه والإرشاد، أو بتهيئة التربة الصحية لزرع بذور الصدق والاستقامة والأمانة والوطنية, فكان -رحمه الله - يمدني بالكتاب والمجلة والجريدة ويتمنى علي قراءة هذا المقال أو ذاك الكتاب.
عشت ولمست معه شعور ومحبة وخوف والدي -رحمهما الله - وكنت أستجيب لتوجيهاته الإيجابية دونما تردد، مثلما أستجيب تماماً لتوجيهات والدي، وكان كلاهما يزرعان في دمي روح الطموح والتحدي كلٌّ حسب تفكيره وخبرته.
كان صادقاً صادقاً، وصاحب عزمٍ وحسم...
كان أميناً أميناً، وصاحب قرار...
أخوك أخوك من يدنو وترجو
مودته وإن دعي استجابا
(3)
دفعني وأنا شاب ذو خبرة محدودة، وسط كفاءات جامعية وعلمية بارزة حينذاك، وجعلني بينهم ومعهم وعلى مدى سنوات كتلميذٍ يستمع إلى أساتذة ومحاضرين في الوطنية والقومية والتاريخ والثقافة والشعر والأدب.. ويعلم الله أن معظم الذين التقيت بهم ومعهم من خلال فقيدنا الغالي وعلى مدى سنوات طوال هم من الكفاءات الكبيرة التي خدمت وطننا الحبيب بصدقٍ وأمانةٍ وإخلاص.
كان وطنياً وطنياً, مؤمناً بمستقبل الوطن...
كان طموحاً طموحاً، يدفع أهله وأحبابه وأصدقاءه نحو مستقبلٍ مشرق...
أيا وطني تفدي ترابك أنفس
تجود بلا خوف الممات وخطبه
(4)
استقال من وزارة المالية وهو في مركزٍ وظيفيٍ متقدم... ثم سافر إلى لندن لدراسة اللغة الإنجليزية وهو في سن الأربعين, وقد أعطته إقامته في بريطانيا عدداً من الخيارات الاستثمارية التي قد تخدم أهله ووطنه، وبعد عودته أشار عليه شقيقه المهندس عمير وهو أحد موظفي مركز الدراسات والأبحاث في وزارة التجارة حينذاك بطرق باب الصناعة الوطنية والتفاهم مع رجل الأعمال المغفور له عبدالرحمن المحمود ومشاركته في إنشاء مصنع أثاث مدرسي والتقدم لصندوق التنمية الصناعية بدراسة جدوى اقتصادية للمصنع وذلك من أجل الحصول على قرض لتمويل المصنع, حيث تم لهما حينذاك أخذ الموافقة والدعم والمتابعة من الإدارة التنفيذية للصندوق إلى أن تم افتتاح المصنع مع بداية عام 1979م وكان للمهندسين عمير وعبدالعزيز العمير الفضل في بناء المصنع وتهيئته وجذب الكوادر المهنية لتشغيله, وكان بالفعل من أفضل المصانع المنتجة للمقاعد المدرسية الأمر الذي دعا الرئاسة العامة لتعليم البنات آنذاك للتعاون التام مع إدارة المصنع في توريد المقاعد الدراسية لفصول بنات وطننا الغالي.
كان ناكراً للذات، ويحب الخير لأهله وأحبابه...
كان يتنازل عن ماله لأحبابه برغبة ومحبة وإيثار...
أخي ما نحن من حزم على ثقة
حتى نكون إلى الخيرات نستبق
(5)
عشق الخضرة...
عشق الجمال...
عشق الأمطار...
وعشق مدينته البكيرية...
لذا لم يتردد في شراء وإحياء أرضٍ زراعية في موقع جميل في البكيرية انسجاماً مع حبه للنخيل والأشجار والخضرة.. وتلبية لرغبة ملحة في ذهنه لإحياء ذكرى جده المغفور له عمير العبدالله العمير أحد قيادات منطقة القصيم البارزين وأمير مدينة البكيرية حينذاك.
وكانت مزرعته هذه ملتقى متكرراً للعديد من رجالات الفكر والأدب والتاريخ والمال والأعمال في بلادنا الغالية. لقد صرف الكثير من جهده ووقته وعنايته وماله على هذه المزرعة إلى أن أصبحت معلماً أخضر جميلاً من معالم مدينته البكيرية...
كان منظماً منظماً في تفكيره وفي حياته...
يرسم أهدافه بدقة ولا يألو جهداً في تحقيقها على أكمل وجه...
ليس الجمال هو الجمال بذاته
الحسن يوجد حين يوجد رائي
(6)
التقى أبو طارق -رحمه الله - في لندن بالدكتور خير الدين حسيب -رحمه الله - أحد مؤسسي مركز دراسات الوحدة العربية ورئيس تحرير مجلة المستقبل العربي، ونشأت بينهما علاقة صداقة عميقة وجميلة على مدى سنوات طويلة قام خلالها بدعم المركز بالعديد من المبادرات المادية والمعنوية، حيث ساهم في الاشتراك مدى الحياة لعدد من الأصدقاء بكل ما يصدره المركز من بحوث وكتب تاريخية أو فلسفية أو ثقافية أو شعرية أو أدبية, بل (أوقف) قبل ثلاثين عاماً مبلغاً قدره مليون دولار أمريكي للأعمال الإنسانية والخيرية والبحثية وطلب من الدكتور حسيب الإشراف على هذه الوقفية.
كان شغوفاً شغوفاً بالمعرفة...
محباً للخير لكل الناس...
فكل بلاد جادها العلم أزهرت
رباها وصارت تنبت العز لا العشبا
(7)
فقدت أبا طارق قبل عشر سنوات لأول مرة حينما قرر اعتزال الأحباب والأصدقاء والحوار والنقاش، وفقدته ثانية قبل خمس سنوات حينما فقد النطق ولم يعد يشاركنا الحديث إلا بعينيه وسمعه ويديه، وهاأنا أفقده ثالثة فقداً أبدياً وعزائي أنه بين يدي رحمن رحيم، وأنه ترك في قلبي ووجداني الكثير من السمات الرائعة التي ستبقى معي ما حييت, وعلى رأس ذلك أنه نقلني من (الصفر) إلى الستر ومن ميدان (الهرج) إلى آفاق (الفعل) الإيجابي السليم الذي دفعني -وبعون الله - إلى خلق حياة سعيدة جميلة ومشرقة والحمد لله.
والحديث قد يطول ويتشعَّب ويلهب الذهن والقلب والمشاعر بأروع وأجمل وأعذب وأصدق الكلمات.
رحمك الله يا أبا طارق وأسكنك وارف الجنان ورزق أهلك وأصدقاءك ومحبيك حسن العزاء والصبر والطمأنينة والسلام.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
في رحمة الله قد راح مبتعداً
إنا إلى الله قول أبرد الكبدا
** **
- صالح العلي العذل