د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أبو البركات الأندلسي عالم، وقاضٍ، وأديب، وشاعر، مميز، ويقال له ابن الحاج البلفيقي، نشأ في مدينة المرية، ثم انتقل منها إلى غرناطة، ليتولى القضاء في مالقا، ثم أضيفت إليه الخطابة، كان والده من المشهورين بالعلم والنزاهة، وقال عنه السلطان أبو يوسف ملك المغرب: كل رجل صالح يدخل علي كانت يده ترتعد في يدي، إلا هذا الرجل فإن يدي كانت ترتعد في يده عند المصافحة. وصاحبنا أبو البركات يمارس هواية غريبة تتمثل في حفر الآبار، وقد استغرب البعض من ذلك، لعلو مكانته العلمية، والاجتماعية، ويسر حالته المالية، غير أنه استمر في ممارسة تلك الهواية فترة طويلة من الزمن، والحقيقة أن ممارسة الهواية عنصر هام في حياة الإنسان لنقله من مصاعب الحياة، وهمومها إلى ما يستمتع به خارج الإطار العملي، ولقد أتيح لي معرفة أشخاص كانت لهم هوايات قد لا تروق للبعض، مثل جمع الفراشات، أو الثعابين، وأعرف شخصاً كانت هوايته بأن يربط رجليه بجذع شجرة، ويدلي رأسه إلى الأسفل لمدة ربع ساعة كل صباح من معظم أوقات السنة، وذكر لي أنه يحس براحة شديدة عند ممارستها، كما يعتقد أنها مفيدة من الناحية الصحية، وغيرهم كثير.
سبق الكتابة عن هذا العالم في مقالات مضت، وما حدا بنا للكتابة عنه، هي تلك القصة التي حدثت لأبي البركات، والتي لها علاقة بالإيحاء الثقافي، والموروث الاجتماعي، التي تجعل المرء يتخيل بعض الأشياء التي قد لا تكون صحيحة، وفي الغالب فإن لها أوقات معينة، وظروفاً مهيأة، تكون حاضرة، للتأثير في الإنسان، وتبقى الخلفية الثقافية التي نشأ فيها عاملاً أساسياً لكل ذلك.
ينقل لنا الوزير والأديب لسان الدين بن الخطيب، أن أبا البركات دخل مساء ذات يوم إلى الحمام منفرداً، والمقصود هنا الحمام المغربي المعروف، فانطفأت الشمعة التي كانت تنيره لسبب معين، وأصبح الحمام مظلماً، فأخذ في التفكير، فخطر بباله ما يقوله الناس من تخيل الجن، لا سيما في الأرحاء والحمامات، وقد ساعد الظلام على حضور تلك الأوهام، وما يذكرون من قصص حول ذلك، فأخذ تأثير الموروث الثقافي والشعبي، وما ينسج حوله من أساطير يدفعه إلى الاعتقاد بأن الجن حاضرون معه في الحمام، ولابد لهم من التجسد أمامه، وربما الحديث معه، غير أن قوة نفسية وعقلية ملأت قلبه، وأخذت الثقة بالله والتوكل عليه، تشد من عزمه لطرد تلك الأوهام، فقويت عزيمته، وأخذ في إنشاد أبيات شعرية يكافح بها ذلك الوهم، وهو هنا يوجهها إلى الجن إن كانوا حاضرين، متحدياً إياهم، فيقول:
زعم الذين عقولهم قدرها
إن عرضت للبيع غير ثمين
أن الرحا معمورة بالجن
والحمام عندهم كذا بيقين
إن كان ما قالوه حقاً فاحضروا
للحرب هذا اليوم من صفين
فلئن حضرتم فاعلموا بحقيقة
أني مصارع قيس المجنون
يالها من أبيات رائعة تحكي موقفه الذي أحاط به، ويالها من فطنة جعلته يتحدى ما كان سائداً بين الناس من أوهام، وثقافة، يرونها حقيقة، في ظل أماكن، وظروف لا سيما الظلام التي تجعل الجن يتجسدون ويحضرون أمام الناس في تلك المواقع، لكن عندما يكون إيمانك قوياً، وثقتك في الله عالية، فتأكد أنه لن يخيفك أحد من شياطين الإنس أو الجن، لقد كَّذب أبو البركات أولئك الذين يزعمون أن الحمامات والرحا عندما يحل الظلام، يظهر بها الجن لا محالة، وإن كان ذلك حقيقة، فعليهم الخروج الآن لتقوم بينه وبينهم معركة، تشابه معركة صفين، وإذا ما حضرتوا قسون لصارعهم مثل مجنون ليلى، الذي أصاب منه الجن ما أصاب.
أذكر أن والدتي ذكرت لي أن ضرتها التي كانت تعيش معها في المنزل في حياة والدي رحمهم الله جميعاً، وكانوا حافظين للقرآن الكريم، يقومون آخر الليل للتهجد والقراءة على السراج، وأن ضرتها كانت تشاهد جنياً مسلماً على عتبة الدرج معظم الليالي يستمع إلى القرآن، وكانت ترفع صوتها لتسمعه، وأن له شكلاً غريباً لا يمكن وصفه، فإذا رأته قرأت سورة الجن، ومنها الآيه الكريمة {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} وأنه يمكث فترة ثم يختفي، وأقول ربما إنها تتخيل ذلك تمشياً مع الثقافة السائدة، ولا أحد ينكر حقيقة وجود الجن، أما قدرتهم على التجسد، فالله أعلم بذلك، والأساطير في ذلك كثيرة.
وصاحب أبا البركات ذات مرة كلب له اسمه قطمير، تمشياً مع اسم كلب أهل الكهف، ورأى أن وفاء كلبه خير من وفاء بني آدم القريب منهم والبعيد، فقال قصيدة منها هذان البيتان:
وناهيك ممَّن يفضِّل كلباً
عليهم فيا ويلهُم من رفيقِ
ألا من يرِقُّ لشيخٍ غريبٍ
أبي البركات الفتى البلَّفيقي
والبلفيقي لقبه، وهو هنا أيضاً تحت تأثير نفسي، لغدر أهل زمانه به، وعدم وفائهم حتى فضل عليهم كلباً، وهذا من الوهم، في فترة ضعف.