د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
لم أعرف د.بندر عبدالولي عبدالله السلمي حتى اتصل بي ليقول لي إنه من طلاب مرحلة الماجستير في قسم اللغة العربية، وأنه يعد رسالة عنوانها «معايير ابن خروف في اعتراضاته النحوية على ابن بابشاذ» بإشراف أ.د. خالد عبدالكريم بسندي، واستأذنني بندر أن يتصل بي كلّما وجد حاجة إلى مناقشة مسألة نحوية أو إجراء منهجي، وعلمت منه أن مشرفه وجهه إلى ذلك، رحبت به، وكانت بيننا مكالمات كثيرة طويلة، وجدته فيها مهتمًّا بالدقائق والتفاصيل، مستوضحًا كل ما يشوبه غموض أو يعرض له إشكال، لم يكن يمرّ الأمور إمرارًا، وشاء الله أن ينتظم في شعبة مرحلة الدكتوراه التي أشارك فيها طلاب الدراسات العليا التعلم فألفيته كما عهدته، كلفًا بالتدقيق، حريصًا على التعلم بوضوح وبسط، فلا يغادر مسألة حتى يصل فيها إلى ما يقنع عقله، كان غزير الاطلاع، واسع المعرفة، يحسن الاستفادة من مصادره ومن مراجعه، يحسن التخير، ويتوخى الصواب، ويتحرى الحكمة. ثم كان لي شرف مناقشة رسالته للدكتوراه «تضعيفات أبي حيان النحوية في كتابه البحر المحيط» التي أشرف عليها د.حسان بن عبدالله محمد الغنيمان- رحمه الله-. وكانت رسالته من الرسائل الجياد في قسمنا المبارك.
ويفاجئني د. بندر اليوم بخوضه غمار عالم جديد، هو عالم المخطوطات وتحقيقها، وذلك حين كابد تحقيق كتاب «التعليقة على ملحة الإعراب». ومؤلفه هو شهاب الدين أحمد بن أرسلان الرملي الشافعي (ت 844 هـ). جاء في زمن استوى فيه النحو ونحا العلماء في الغالب منحًى تعليميًّا فما الملحة وما المنظومات النحوية الأخرى سوى سعي لزوي النحو المستقر في شكل صالح للاستظار ميسر للطالب أمر تذكر الأحكام اللغوية، وهي منطلق للتعليم ببسطها وشرحها والتعليق عليها، ومن هنا تأتي تعليقة ابن أرسلان التي هدفها تعليمي بل تربوي يظهر الجانب التربوي في بعض الاستطرادات الوعظية أو الأدبية أوالتاريخية وهو دليل على أن يتوجه بهذا التعليق إلى متلقين مباشرين. ويظهر لك أهمية ذلك من كشف المحقق مدى استفادة ابن أرسلان من النحويين السابقين، والمحقق تتبع ذلك في نحو فريد دقيق.
لم يكتف المحقق بأيسر ما يقتضيه تحقيق النصوص، وهو إخراجها في الصورة التي أرادها المؤلف أو الصورة التي هي أقرب إلى تلك الصورة، بل أراد أن يبلغ بالنص درجة عالية من الوضوح والتوثيق؛ لأن هدفه الأسمى هو خدمة العربية وطلابها؛ من أجل ذلك سلك طريقًا منسجمًا مع ما تعوده من طلب التفصيل والتوضيح والتدقيق، فألزم نفسه بما لا يلزم، وكان من ذلك أنه وثق أقوال العلماء من كتبهم أو من أقرب كتب إلى عصرهم، وهو ينص على ما استفاده ابن أرسلان من غيره من غير عزو، وهو بصنيعه هذا يقوي النص ويشده بأصوله فيزيده تلاحمًا ويجعل الثقة به أقوى والاستفادة به أرجى.
وهو كذلك يخرج الشواهد التي وردت في النص المحقق، فيخرج قراءة الآيات من كتب القراءات ولا يكتفي بورودها في تفسير من التفاسير، إذ ربما توقف في قبول عدها قراءة كالقراءة التي نسبتها التفاسير إلى ابن مسعود، وهي (حتى تنفقوا بعض ما تحبون)، قال «ولعلها تفسير للمعنى وليست قراءة؛ لأنني لم أجد لها ذكرًا في كتب القراءات» وهو موافق بذلك قول السمين الحلبي الذي ذكره المحقق، وهو مع ذلك قد يوثق القراءات من التفاسير، وهي مصادر معتمدة.
حرص على نقل شرح الغريب الوارد في الملحة والتعليقة، ينقل الشرح من المعاجم ابتداءًا من (العين) لا يكتفي بنقل المعنى.
يوثق الشواهد الشعرية من كتب النحو ودواوين الشعراء، وأراه أثقل حواشيه في ذلك، فالشاهد الشعري عندي إنما يوثق من أول مصدر نحوي ورد فيه مثل كتاب سيبويه، ولا تذكر مظانُّ أخرى إلا إن اختلف الإنشاد. وقريب من هذا أنه اهتم بالترجمة لبعض الأعلام الذين رأى أهمية للترجمة لهم.
وأبرز ما يظهر من عمل المحقق المدقق عنايته باتساق النص، فهو يحذف ما رأى أن زيادته من خطأ النساخ، وهو يضيف ما لا يستقيم النص إلا به لوقوع سقط أو لسهو عرض للناسخ فأخل بالنص.
أحسن المحقق في دراسته التي جعلها بين يدي الكتاب فترجم لابن أرسلان، وتحدث عن عمله في التعليقة، فكان ما ذكره على وجازته كاشفًا عن طريقة المعلق في عمله، ومن ذلك ما اتصف به المعلق من حب الاستطراد، وهو أمر غير مألوف في شروح المتون النحوية أو حواشيها والتعاليق عليها، والمعلق مع ذلك لا يستطرد إلى ذكر ما يمكن عده تكملة للموضوع النحوي؛ فصاحب الملحة اكتفى من المبتدأ بنوع واحد هو المبتدأ الذي له خبر، فكان من المتوقع أن يذكر المعلق النوع الثاني وهو المبتدأ الذي له فاعل سدّ مسدّ الخبر مثل (أقائم الزيدان).
ربما يقول قارئ غير متخصص كلف بكتب التراث: أي فائدة في تحقيق كتاب مثل هذا؟ يغني غيره عنه، وهو قول من لا يدرك أن نشر التراث واجب بغض الطرف عن مدى قيمته، إذ قد تجد في بعض ما تظنه بلا قيمة نفائس لا تجدها في غيره. والكتب النحوية متكاملة يوثق بعضها بعضًا فكم من أقوال لعلماء متقدمين نقلتها كتب متأخرة وهي أقوال قد لا نجدها في كتب المتقدمين.
بارك الله في جهود الدكتور بندر بن عبدالوالي السلمي ووفقه وأسعده. وجزى الله القائمين على مركز التميز البحثي في اللغة العربية بجامعة الملك عبدالعزيز خير الجزاء على استشعارهم المسؤولية تجاه لغتنا العربية، وحرصهم على نشر تراثها، وخدمة طلابها.