عبدالرحمن الحبيب
إندونيسيا رابع دولة بالعالم سكانياً (276 مليون نسمة)، مع مساحة ضخمة ومناخ استوائي عبر جغرافيا أرخبيلية واسعة الامتداد تجعلها ثاني أعلى مستوى للتنوع البيولوجي بالعالم (بعد البرازيل)، وهي غنية بمواردها الطبيعية الممتدة عبر أكثر من 17 ألف جزيرة تمتد من المحيط الهندي إلى المحيط الهادئ في موقع استراتيجي وحساس بين الصين وأمريكا لتشكل نفوذاً متنامياً في مسابقة القوى العظمى؛ ورئيسها هو أحد الأشخاص القلائل الذين التقوا بالرؤساء الأمريكي والصيني والروسي والأوكراني هذا العام، جرياً على تقليد إندونيسي منذ الحرب الباردة في الخمسينيات بعدم الانحياز والحياد.
إندونيسيا تعود للواجهة بعد تراجعها خلال الفوضى الاقتصادية في التسعينيات وسط الأزمة المالية الآسيوية، حسب تقرير مجلة إيكونيميست الذي يذكر أن إندونيسيا بعد مرور ربع قرن، أصبحت مهمة مرة أخرى.. فهي مثل الهند والأسواق الناشئة الأخرى، تتكيف مع نظام عالمي جديد تتراجع فيه العولمة والتفوق الغربي؛ مما جعل المراقبين يحللون طبيعة القوة الإندونيسية المتنامية، ونلخص هنا أهم الأسباب كما يطرحها تقرير الإيكونيميست.
السبب الأول هو الاقتصاد، فإندونيسيا هي سادس أكبر سوق ناشئ من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وقد نمت في العقد الماضي بشكل أسرع من أي اقتصاد آخر من الاقتصادات التي تزيد على تريليون دولار باستثناء الصين والهند. مصدر الديناميكية هو الخدمات الرقمية، والتي تساعد في إنشاء سوق استهلاكي أكثر تكاملاً، حيث ينفق أكثر من 100 مليون شخص بشكل جماعي 80 مليار دولار سنويًّا على كل شيء من المدفوعات الإلكترونية إلى تطبيقات النقل بالشاحنات عند الطلب.
السبب الثاني هو أن إندونيسيا وجدت طريقة للجمع بين الإصلاح الاقتصادي ونظام سياسي تعددي يشدد على التسوية والوئام الاجتماعي. يحكم الرئيس الإندونيسي ويدودو منذ عام 2014 من خلال تحالف مترامي الأطراف استلزم ضم العديد من خصومه، قد تعتقد أن هذا سيؤدي إلى حد أدنى مشترك، لكن المالية العامة تدار بإحكام. تشمل التحسينات الإضافية البنية التحتية الجديدة، وتنظيف الشركات الحكومية وبعض تحديث قوانين التعليم والعمل..
السبب الأخير هو الجغرافيا السياسية لإندونيسيا، فموقعها وحجمها ومواردها تجعلها مسرحًا رئيسيًّا في مسابقة القوى العظمى، وتريد أن تكون محايدة مما يعكس تقليد عدم الانحياز الذي يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، ملتمسة رأس المال من كلا الجانبين الصيني والأمريكي، عبر ساحة تتنافس فيها الشركات الرقمية والمستثمرون الصينيون والأمريكيون بشكل مباشر. في مجال البطاريات، تستثمر شركة CATL الصينية، في مشروع بقيمة 6 مليارات دولار، لكن الرئيس الإندونيسي يسعى أيضًا إلى استمالة تسلا الأمريكية، كما سعى في الدبلوماسية إلى أن يكون داعيًا للمّ الشمل وصانع سلام، وفي نفس الوقت انتقدت إندونيسيا العقوبات الغربية على روسيا..
إذا بقيت إندونيسيا على هذا المسار خلال العقد المقبل، فيمكن أن تصبح واحدة من أكبر عشرة اقتصادات في العالم. وستظل مرنة إلى حد ما في مواجهة الصدمات، فقد تفوقت عملتها على العديد من أقرانها في العالم الغني هذا العام على الرغم من الاضطرابات المالية العالمية.. سترتفع مستويات المعيشة، حيث 4 % فقط من الناس يعيشون الآن على 2.15 دولار في اليوم أو أقل، أي أقل بثلاثة أرباع مما كان عليه في عام 2012.. وستظهر طبقة وسطى كبيرة.
الخطر الأكبر هو أن الجغرافيا السياسية قد تتسبب في تعثر إندونيسيا، وحتى في مسارها الحالي، يمكن أن تنجرف إلى مدار الصين. مقابل كل دولار استثمرته الشركات الأمريكية في إندونيسيا منذ عام 2020، يقابله ما يقرب من أربعة دولارات من الشركات الصينية. إذا تصاعدت التوترات بين أمريكا والصين، فإن التكاليف ستكون عالية. قد تؤدي الحرب على تايوان إلى إغلاق الممرات البحرية التي تعتمد عليها إندونيسيا، بينما قد تضرب العقوبات الغربية الشركات الصينية التي تعتمد عليها إندونيسيا، رغم أن دبلوماسية الرئيس الإندونيسي مستلطفة من قبل الرئيسين الأمريكي والصيني..
الحمائية التجارية خطر آخر، فالبلد تتمتع بتاريخ طويل من تأميم الموارد الشائكة، قد ينجح ذلك مع النيكل المستخدم في البطاريات والذي تحوي إندونيسيا خمس الاحتياطيات العالمية وتعد رابطًا حيويًّا في سلاسل توريد السيارات الكهربائية، وتتمتع فيه إندونيسيا بقوة سوقية، لكنه يأتي بنتائج عكسية في صناعات أخرى. لا يزال يتعين على إندونيسيا اجتذاب سلسلة التوريد الخاصة بشركة أبل مع انتقالها من الصين إلى أجزاء أخرى من آسيا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن سوق العمل فيها لا يزال صلباً للغاية. إذا ضغطت إندونيسيا بشدة، فستحاول شركات السيارات الكهربائية إيجاد بدائل لمعادنها الخضراء.
ويخلص التقرير إلى أن الهند وإندونيسيا هما نجمتا آسيا اللامعتان.. تختار الهند التنمية التي تقودها التكنولوجيا والصناعة، والتي تغذيها الإعانات والسياسات الشوفينية والانفصال عن الصين. أما إندونيسيا فتعتمد على الموارد والحمائية الجراحية وسياسة الطيف الواسع والحيادية. كلاهما رهانات عملاقة، وستراقب القوى العظمى عن كثب، كما تفعل العديد من البلدان الأخرى التي تريد أن تصبح أكثر ثراءً ولكنها تفضل عدم الانحياز إلى جانب واحد. إذا نجحت إندونيسيا فإنها ستحسن حياة ربع مليار شخص وتحفز على نمو العالم المتعثر، بل ويمكن أن يغير ميزان القوى العالمي.