أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: تواترت النصوص بالاستعاذة بالله جل جلاله ووردت نصوص أخرى في الاستعاذة بكلمات الله التامات كحديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من نزل منزلاً، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.. لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك)).
وكلمات الله هاهنا كناية عن مشيئته وقدرته وعلمه وحكمته وتدبيره جل جلاله، لأن تدبيره صادر عن كماله وجلاله. قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس / 82]، وقال الله سبحانه وتعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة مريم / 35]، وقد وصف ربنا كلماته بما ذكرته من الحكمة والعدل فقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [سورة الأنعام 115]، وعن دلالتها على القدرة ورد قوله سبحانه وتعالى: لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ [سورة الأنعام/ 115].
قال أبو عبدالرحمن: وقد لمح أبو عبدالله الحكيم الترمذي ملمحاً مليحاً في الفرق بين الاستعاذة بالله والاستعاذة بكلماته، فقال: «فالاستعاذة بالله تعلق به محض والاستعاذة بكلماته تعلق بتدبيره».. ثم قال: «ما كان من أمر الباطن فالاستعاذة به، وما كان من أمر الظاهر فالاستعاذة بكلماته، لأن ما هو في الظاهر هو بقوله كن، وما في الباطن صنعه».. انظر نوادر الأصول 64/1 و 65 تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة، دار الجيل ببيروت، الطبعة الأولى عام 1412هـ. وفي الأصل المطبوع «محضا».
وقال الرازي وتابعه النيسابوري: «إنما تحسن الاستعاذة بالكلمات إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى ما سوى الله تعالى، وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد لم يستعذ إلا بالله ومن الله كما قال صلى الله عليه وسلم: أعوذ بك منك.. وإذا فني عن نفسه، وفني أيضاً عن فناء نفسه قال: أنت كما أثنيت على نفسك.
ثم قال الرازي: ذلك لأن الاستعاذة بكلمات الله قد تعني الاستعاذة بالأرواح العلوية المقدسة من الأرواح الأرضية الخبيثة.. انظر تفسير الرازي (76 /1، دار إحياء التراث العربي بلبنان عام 1417هـ. وغرائب القرآن ورغائب الفرقان 17 /1، دار الكتب العلمية ببيروت، تحقيق زكريا عميرات طبعتهم الأولى 1416هـ.
قال أبو عبدالرحمن: تفسير الرازي والنيسابوري الذي تضمن هذا الكلام منشور مشتهر متوارد لأيدي الناس، لهذا لزم إبراء الذمة بالوقوف عند تلك الكلمات التي تجرح العقيدة، وتتضمن الوقفات أموراً:
أولها: أن الزعم بأن من لم يخلص توحيده يستعيذ بكلمات الله أفتيات على دين الله، فأكمل الناس إيماناً، وأخلصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد استعاذ بكلمات الله وندب أمته إلى ذلك، فاستعاذ بكلمات الله أفضل الأمة وأخلصها إيماناً، وهم الصحابة وخيار القرون بعدهم، وأهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان.
وثانيها: أن الاستعاذة بكلمات الله استعاذة بقدرة الله وإرادته كما مر بيانه والاستعاذة تكون بالله وبالرحمن وبأسماء الله وصفاته وبرضاه وبكل صيغة ورد بها النص، ولكل صيغة وظيفتها، فالاستعاذة بكلمات الله تكون عادة في الاستعاذة من الشرور الظاهرة من حيوانات وسام وحرق وغرق والاستعاذة بالله أعم وأبلغ.. وكل صيغة مشروعة للاستعاذة فهي من كمال التوحيد لا من نقصه، لأن الذي علمنا التوحيد هو الذي علمنا صيغ الاستعاذة جل جلاله.
وثالثها: أن الاستعاذة بكلمات الله ليست استعاذة بالأرواح العلوية المقدسة، بل لا تجوز الاستعاذة إلا بالله جل جلاله.. أما ملائكة الرحمن عليهم السلام فنسلم عليهم ونحبهم ولا نستعيذ بهم.. وإنما جاء هذا الوهم إلى الرازي لتأثره بسفسطات الفلسفات القديمة التي جعلت للأرواح تدبيرا، وأقحمت هذه النظرية في تفسير سورة النازعات.
ورابعاً: أن دعوى الفناء عن النفس، والفناء عن فناء النفس من آثار التصوف ودعاواه ..العريضة.. وليس في ديننا فناء، إنما هو حضور عقل وقلب وحس وإيمان بالغيب عن علم ووعي، فهذا هو إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمان صحابته رضوان الله عليهم وكل دعوى لا تسعها السيرة العملية لمنقذ الأمة محمد صلى الله عليه وسلم وخيار أمته فمن سقط المتاع وسمومه.
قال أبو عبدالرحمن: والاستعاذتان تعنيان العبودية لله، والإقرار له بالربوبية والكمال، وإننا نستعيذ بالله كما أمرنا في صيغ الدعاء وفي الاستعاذة الموظفة.. وما ذكره الترمذي من فارق بين الاستعاذة بالله والاستعاذة بكلماته فارق لم تظهر لي صحته بنص شرعي ولا أجد ما يمنع من قبوله.. وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-