د.محمد بن عبدالرحمن البشر
بعد أن أتممت إعادة قراءة كتاب المفصل للدكتور جواد علي، تاقت نفسي إلى معرفة الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في قلب الجزيرة العربية منذ زمن الأوخيضريين وما بعده، ولم أجد أن هناك تغيراً كبيراً في الأنماط السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدى سكان تلك المناطق منذ ألف ومائتي سنة قبل الميلاد، حيث تم ترويض الجمل واستخدامه في التنقل، فتحول جزء من سكان الواحات المتناثرة على ضفاف الوديان إلى نمط جديد من الحياة، حيث عشقوا التنقل في أنحاء الصحراء الممتدة دون حاجز يقف أمان أنظارهم، ودأبوا على الترحال على ظهر الجمل الصبور على الجوع والعطش، وحمل أمتعتهم، فأصبح الفضاء الفسيح ملكهم بعد أن كانوا يعيشون بين جدران طينية، وأزقة ضيقة.
استمرت الفئتان الحضرية والبدوية، على نمط سياسي ألفه كل منهم طبقاً للمعطيات البيئية، كما أن الحياة الاجتماعية والاقتصادية لكل فئة راوحت مكانها دون تغير جذري، سوى فترة من سيطرة الأوخيضريين، التي لم تغير كثيراً، وبعد نهاية حكمهم عادت الأمور كما كانت عليه، واحات صغيرة، لها حاكم محلي، يعتمدون على الزراعة، ويتصارعون فيما بينهم، وفئة بدوية تعيش في الصحراء، ولا تتردد عن غزو الجيران، وغزو الواحات القريبة، والصراع بين أفراد القبيلة للوصول إلى المشيخة، حتى ظهور الحكم السعودي، وتكوين دولة بالمفهوم المناسب.
في تلك الفترة كان هناك حاكمان لواحتين؛ إحداهما واحة القصب، ويحكمها جبر بن حزمي بن سيار الخالدي، وأخرى الروضة يحكمها ابن اخته رميزان بن غشام التميمي، ولرميزان أخ اسمه رشيدان غادر البلاد، وحاول أخوه وخاله ثنيه عن الهجرة إلى الأحساء، والعودة إلى الديار، لكنه أبى، وينسب إلى جبر كتاب في النسب، وقد قام أخي العزيز الدكتور راشد بن محمد بن عساكر بتحقيق ما ورد به من معلومات، باسم كتاب نبذة في أنساب أهل نجد من تأليف ينسب إلى جبر بن سيار، بعد أن اطلع على بعض مخطوطات هذا الكتاب، بأقلام نساخ متعددين، ويهمنا في هذا المقال ما دار من شعر بين جبر، وابن أخته رميزان، وهنا سنقف عند بعض الأبيات الغزلية، والأخرى الإرشادية.
لا أحسن قول، أو رواية، أو حفظ الشعر النبطي، لكنني أستمتع بما يحمل بعض منه من معاني جزلة، وعميقة تحمل الحكمة والإرشاد والموعظة والغزل والمدح والهجاء والرثاء، وغيرها من الأغراض الشعرية، وبعضها يكاد يكون شعراً فصيحاً، كما هو حال شعر رميزان بن غشام التميمي، وغيره كثير، وسنسطر أبياتاً منتقاة في الغزل الذي قاله الشاعران في مراسلاتهما الشعرية الإخوانية، لاسيما أنهما متقاربان في السن مع صلة القرابة العائلية.
رميزان شأنه شأن الرجال الأسوياء، يعشق النساء، رغم مشاغله السياسية، وصراع أقرانه له على السلطة، ومحاولته التواصل مع الأقوياء في زمانه، مثل الشريف، وآل حميد، وآل معمر، ومما جذبني للكتابة حول هذا الموضوع، ذلك الإيضاح في شعره عن فعله مع من يهواه، مع مكانته الاجتماعية، فيقول في إحدى قصائده الإخوانية التي أرسلها إلى خاله جبر، مع تغيير يسير ليكون الشعر فصيحاً:
فثيابها يشكين ضيم ردافها
والخصر كالرخ الجديد معزل
فإذا مشت خلت النعاس بعينها
من ثقل ردف مثل طعس معتلي
إلى أن قال:
وسدتها زندي وصار وسادتي
زند لها حتى تواريها النجوم وتنجلي
لنا أن نتعجب من هذا الوصف الرائع الجميل، فثيابها تشتكي من ظلم كبر أردافها، أو ردافها بكسر الراء، وكلاهما جمع للردف، أما خصرها المتعلق به الردف، فكأنه نبات الرخ الجديد معزل، والرخ نبات لين رخو هش، وهو جديد ما زال طرياً، وعندما تمشي فكأنها ناعسة تتمايل بهدوء، وليس بها نعاس، لكن ردفها يميل بها يمنة ويسرة بسبب ثقله، فكأنه كثيب رمل مرتفع، والعرب في القديم جبلوا على حب الأرداف الكبيرة، فالأعشى في قصيدته المشهورة، يصف محبوبته بأنها تمشي وتتثنى على مهل، كما هي حال من يمشي على الطين، حيث يقول: تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل، أو ذلك الذي يقول :
من رأى مثل حبتي
تشبه البدر إذ بدت
تدخل اليوم وتدخل
أردافها غدا
أو ذلك الذي يقول:
تمشي فتثقلها أردافها
فكأنما تمشي إلى الخلف
أما ذلك الإفصاح الذي ما بعده إفصاح بأن يذكر كيفية وضع زنده وزندها، فهذا من المؤكد أنه قول شاعر متيم، فيما يبدو أنه يقول ما لا يفعل، لكنه الغرام الذي جعله يتعمق في الوصف، وفي ظني أن ذلك للتسلية فحسب.