د.رقية بنت ناصر الحربي
للأنا مكانة مركزية في السرد؛ فهي واحد من تجليات الذات في حركة الإبداع الأدبي في شتى مظاهره. وقد حضرت الأنا في النصوص السردية حضورًا كثيفًا، وقامت بأدوار متعددة في سياق إنشاء النص، وفي سياق تشكيل الرؤية على حدٍ سواء.
وتحضر الذات حضورًا مكثفًا في السرد؛ ففي الرواية يجد القارئ احتفاءً ظاهرًا بالأنا، وربما كان ذلك راجعًا إلى أن السرد الروائي في جانب كبير منه يكون تأريخًا للأنا في سياق تعاطيها مع الآخر على اختلاف تمظهراته وتشكلاته. ومن أجل ذلك كانت الأنا ذات حضور فاعل في بنية الخطاب السردي يهيمن على كافة الفواعل الأخرى ويستأثر بالقدر الأكبر من الحركية والدينامية.
وفي النص السير ذاتي تتجلى خصوصية الأنا على نحو ظاهر، فهي مصدر البوح ومناط الرؤية وطرف مهم في تحقيق الميثاق التعاقدي بين القارئ والكاتب. ومن أبرز ملامح هذه الخصوصية واقعية الأنا، وواقعية ما تسوقه من معالم الخطاب؛ فهي وفقًا للميثاق التعاقدي الذي يعد مكونًا مهمًا من مكونات التعريف بالأجناس للسيرة الذاتية ملتزمة أمام القارئ بحكاية ما هو واقعي لا خيالي، وبسرد ما هو شخصي؛ ومن ثم فإن وجود الأنا في خطاب السيرة الذاتية يحقق التطابق بين البطل بوصفه كائنًا من ورق وفقًا (لرولان بارت) والكاتب بوصفه شخصية ذات وجود حقيقي.
وتمنح الأنا النص السير ذاتي هويته الأجناسية، وهو ما يتم عن طريق الربط بين المحكي والذات الحاكية في ضوء فكرة الوعي بالذات وقضاياها وصراعها مع المكان والزمان في سياق الواقع الإنساني عمومًا، وفي سياق الكتابة على نحو خاص.
وفي النص السير ذاتي تمارس الأنا فعل الاستبطان الحميم سعيًا إلى التحاور مع الذات أو مع الآخر، وكشفًا عن دواخل النفس وكوامن الهواجس واعترافًا بخبايا الذات، وهو ما يسهم في تحويل الذات إلى موضوع مطروح للتناول من قبل القراء؛ ومن هنا تغدو الأنا وسيلة بارعة من وسائل تشكيل الوعي والتعبير عن الذات.
وتسهم الأنا الساردة في النص السير ذاتي في منح البنية جانبًا معتبرًا من الحياة والحركة؛ لأن انخراطها في الأحداث المحكية تمنحها صدق الحضور وواقعية التجربة؛ فالخطاب يستعين بالأنا وكل منهما يحقق فائدة للآخر؛ حيث يضفي الخطاب على السرد واقعية ومصداقية عن طريق الأنا التي توظف الخطاب لتكوين الهوية السردية ومنح النص شرعيته الأجناسية؛ لأن السيرة الذاتية تحقق انفتاحها على الواقع وتواصلها مع العالم من خلال خطاب الإنشاء الذي يتذرع بالأنا لتكوين صورة عن الذات، وهو ما يجعل السيرة الذاتية معرضًا لصورتين من الأنا وهما: الأنا الساردة، والأنا المسرودة، وهما مع تطابقهما الواقعي يفترقان على الورق من حيث البنية والتشكيل وفاعلية الحضور.
ومن يرجع إلى متون السرد السير ذاتي يجد أن الأنا اتخذت من العالم مواقف متباينة -وهذا أمر طبيعي- وفقًا لما تتسم به الأنا من تفرد واختلاف، فقد بدت الأنا تارة متوائمة مع الواقع منخرطةً في نظامه، بينما ظهرت في تارات أخرى رافضةً لهذا التكيف عاجزة عن الانسجام معه والتكيف مع مواضعاته، وفي سياقات أخرى كان حضور الأنا حضورًا إشكاليًا؛ إذ بدت مهمشة مضطهدة تنشئ خطاب التشكيك والعجز وسوء الظن والرفض الصامت لما يفرض عليها من قيود، وهي في الوقت ذاته تنأى عن هذا الواقع ولا تسعى إلى الانخراط في تياره الدافق المندفع. لكن الأنا في كل هذه الأحوال المتباينة تقوم بفعل التوثيق، وهو ما يجعل الذات منشئًا للسيرة ومرجعًا للأحداث في الوقت ذاته.