سراب الصبيح
«إلى أين..
لا يدري كلانا
وإنما..
نسيرُ
ولا يدري الطريق لأينه»
حتى أنا مثل الطريق لا أدري ما أكتب، لأصف ذلك الشعور الذي يشرئب في تشعبات روحي حين يصدح حسن شهاب الدين بشعره!
كانت البداية التي اكتشفت بها استغرابي من اللغة، مع المتنبي؛ إذ كنت أستغرب أني لا أقدر على وصف بلاغة كلامه باللغة، على الرغم من أنه وظف بلاغة كلامه من ذات اللغة التي عجزت عن ترجمان بلاغته عند المتلقي!
إني أواجه مؤخرا صراعا مع اللغة، ذلك الصراع الذي لا ينجم عن عجز الكاتب، ولا عن قصور اللغة في نظامها الطبيعي، وإنما عن قصورها في تغطية الإدراك والشعور في آن، حين يخرجان من حدود أبجديتها، إلى فضاء يدركه المرء في ذهنه، كما في شعوره، مثل ذلك الإدراك الذي يسافر بنفسيتي خارج رحاب اللغة حين أقرأ شعر شهاب الدين.
إن الطريق في حد ذاته؛ هو الوجهة المجردة من التوجه، أي: هو سبيل لا يؤدي إلى شيء في نفسه، وإنما يوظفه قاصد الحاجة لغايته، وحين لا يدري الطريق لأينه، فما ذلك إلا بلاغة مكثفة في شحن صورة الإنسان الذي ضل وجهته من خلال ضلال الطريق عن وجهة نفسه!
مثل هذا الشحن المكثف في توظيف صور ميتافيزيقية للوصول إلى تلك المنطقة في نفسية الشاعر، والتي بدورها تنتقل لوصف نفسية المتلقي؛ كثيرة في شعر شهاب الدين، وبرأيي أنها من العلامات الفارقة في شعره، ويزداد عذوبة في وقعه؛ أنه دائما ما كان موفقا في إلباس هذه الصور لباس الوزن البديع؛ ولأن الموسيقى مما يساعد الإنسان على ترجمة تلك المناطق النفسية التي لا تترجمها اللغة، فإن لشعر شهاب الذي وظف به الصور الميتافيزيقية في قالب الوزن البديع وقع على المتلقي يتنفس به هواء متحررا من الجراح الغائرة.
من تلك الصور، والأوزان، ويضاف إليها جرس القافية في الحركة، قوله:
«يعلمني نملُ الحكاياتِ
أنني..
على حملِ أحزانِ الخليقةِ
أقدرُ
فأسندُ أيامَ الحياةِ
على يدي
فنمشي طريقَ العمرِ
لا نتعثرُ
وشِعري.. كثوب العيد
يكبر طفله
وتنأى به الدنيا
وهيهات أكبرُ»
حيرتني يا شهاب الدين، لا أدري ما أكتب، لكن كل ما أشير إليه؛ هي تلك البلاغة المشحونة بالصور المكثفة، التي تجيء بعبارات قليلة تشحن في ثناياها صورا متعددة القراءات، بين النفسية، والأبعاد الكونية في تعاطينا مع الحياة، في لبوس وزن يأسر بموسيقاه.
أشير أيضا إلى طليعة الكثير من قصائده، التي يفتتحها بأنغام تسر السامعين، فتلتفت نحوه الرقاب غير مختارة!
حسن شهاب الدين شاعر بامتياز، يزدان باللغة، واللغة تزدان به.