د.عبد العزيز سليمان العبودي
يتسع صدره للقوى والإجهادات الخارجية حينما يتعرض لها، فتشتد عليه من كل حدب وصوب، ولكنه يبقى مطاوعاً لها ومسايراً لتوجهاتها، وحينما تزول تلك القوى، يرجع لحالته الأولى وكأن شيئاً لم يكن. هذه القوى لا تلبث أن تعود إليه مرة أخرى ثم تزيد عن الحد الذي يتحمله فيصيبه الخضوع والذل، لكنه لا يرجع لحالته الأولى، بعد أن تبتعد تلك الشدائد عنه. بل يرجع لحالة أخرى بعد تعرضه لتغيرات داخلية، زودته بالقسوة والصلابة. وحين تعود تلك القوى لتمارس عليه ضغوطها وإجهاداتها مرة ثالثة وتصل به إلى حد الخضوع السابق، لا تجده يخضع لها كالمرة السابقة، فقد قسا وتصلب و ازدادت إرادته على قهر الصعاب. هذه الصعاب التي لا تتوقف عند حد معين فترتفع وتيرتها إلى مدى أعلى من قبل، فتجعله يرضخ مرة أخرى، وتستمر بالتصاعد فيتطاوع معها وهو خاضع ذليل، سائر بهواها تابع لمبتغاها، حتى يصل به الأمر أن يصاب جسده بالوهن ويبدأ وسطه بالانكماش فيبدو للرائي من بعيد وكأنه عنق زجاجة، ورغم تضاءل القوى من حوله، يضل تابعاً لها محققاً لمبتغاها، حتى يصل به الأمر إلى انشطار جسده النحيل. هذا الانفصال الحسي أصبح انكساراً لا عودة بعده للوحدة من جديد. بهذا التصرف يتعامل معدن الحديد مع اختبارات الشد، فينتج عن ذلك العلاقة والمنحنى المشهور بين الإجهاد والانفعال، وحينما يصاب الحديد بالانكسار بعد تعاظم القوى عليه فهو ليس ببعيد عن الإنسان الذي لا يصيبه التمزق بجسده، لكن نفسه هي التي تتشظى وتنكسر داخل هذا الجسد، فتبين آثار الانكسار عليه. هذا الانكسار لم يأت خلال يوم وليلة، بل أتى بعد آهات الليالي، وزفرات الأيام، وملمات الزمان التي أوصلته قبل الانكسار إلى حد الخضوع، وتجاوزت ذلك إلى أقصى قوة يتحملها فيبدأ بالانهيار، خاصة حينما يفتقد السند والظهير، ولا يرى إلا تذمر الآخرين من صوت آهاته وتنحيهم عن سماع معاناته. حالة الانكسار التي يمر بها البعض حين تضطره الظروف، وتحاصره القوى، ليتراجع عن طموحاته، وتتغير توجهاته وتفكيره، ثم يلوذ بالانكفاء نحو الذات. فترى المنكسر وقد ذبل وجهه، وانطفأت ابتسامته، ونحل جسده، وتغير تصوره للحياة. ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أسباب وأشكال الهزيمة والانكسار فيقول «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال»
يقول ابن زريق البغدادي:
(لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي لَومهُ حَداً أَضَرَّ بِهِ
مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ اللَومَ يَنفَعُهُ)
وكأنه هنا يشير إلى الحد الذي تجاوزه اللوم والعذل وهو حد الخضوع، فطاوعت نفسه هذا اللوم، و غادر بغداد مغترباً في أرض الأندلس، لعله يكسب هناك ما يعينه على تكاليف الحياة، ولكنه يصاب بالإحباط والانكسار من أول نقد يتلقاه عن قصيدته من الوالي. ولعل هذا النقد لم يكن هو السبب الرئيس في انهياره بل كان الشعرة التي قصمت ظهر البعير. فقد حمًل وتحمَّل الكثير قبل ذلك، وبعد أن عجز عن تحمل المزيد، وعرف أن نهايته اقتربت، نقل تجربته مع الخضوع والانكسار والاغتراب عبر قصيدته اليتيمة التي ما لبث أن فارق الحياة بعد ما أنهى كتابتها. وهنا يتبين الفرق بين انكسار الفرد حينما يكون وحيداً مغترباً، ليس لديه سند أو معين، مع من ينكسر بين أهله وإخوانه وعشيرته. فالعزوة والأخوة والأهل هم سندٌ للمرء حين تُلم به الأمور وتَعظم عليه الشدائد.
ومع أن الحديد فيه بأس شديد، فقد تنبه أصحاب الصناعة، وتعرفوا على مواطن ضعفه، فدعَّموه ببعض الإضافات بنسب منخفضة من عناصر أخرى مثل الكربون والمنغنيز وغيرها، في أنواع مختلفة من سبائك الفولاذ وذلك لتحسين خصائصه. ومع ذلك، يبقى الفولاذ معتمداً على قوة ومتانة العنصر الرئيس وهو الحديد. وقد يكون العالم التايواني (جين وي ييه) تنبه لنصيحة الآباء لأبنائهم بالاتحاد كالعصي المجتمعة، وأهمية العزوة للفرد، فأوحت له بفكرة إنشاء سبائك عالية الإنتروبيا كما هي التسمية التي أطلقها عليها، هذه السبائك تحتوي على خمس عناصر على الأقل بتركيزات مرتفعة تتراوح بين 5 و35 بالمائة. فبنى مع فريقه من العلماء أول سبائك عالية الإنتروبيا في العالم لتتحمل درجات الحرارة والضغوط العالية وذلك في عام 2004م. والتطبيقات المحتملة لهذه السبائك، تشمل الاستخدام في سيارات السباق والمركبات الفضائية والغواصات والمفاعلات النووية والطائرات النفاثة والأسلحة النووية والصواريخ بعيدة المدى فائقة السرعة وما إلى ذلك. وفي الآونة الأخيرة، أصبحت هذه السبائك مصدر اهتمام للباحثين المتخصصين في علوم وهندسة المواد. وتشير الأبحاث إلى أن بعض هذه السبائك لديها نسبة تحمل عالية للقوى مع وزن أقل، حيث تتحمل درجات عالية في مقاومة قوة الشد والكسر، بالإضافة لمقاومتها التآكل والأكسدة بشكل أفضل من السبائك التقليدية. وفي المقابل، نجد أنه من الصعوبة تصنيع السبائك عالية الإنتروبيا باستخدام التقنيات التقليدية المتاحة، حيث تتطلب مواد باهظة الثمن وتقنيات معالجة متخصصة. ويتم إنتاجها باستخدام طرق تعتمد على حالة المعادن، فيتم دمج المعادن أثناء كونها في الحالة السائلة إما بالذوبان القوسي، أو الذوبان الحثي، أو تصلب بريدجمان. وفي الحالة الصلبة يتم استخدام مطحنة كروية عالية الطاقة. أما معالجة الحالة الغازية فتتضمن، عمليات مثل الاختراق أو الشعاع الجزيئي. وتشمل التقنيات الأخرى الرش الحراري والكسو بالليزر والترسيب الكهربائي.
الفريق البحثي المتخصص بهندسة المواد بجامعة القصيم، ومن ضمنهم كاتب هذا المقال، قام بإنتاج العديد من السبائك عالية الإنتروبيا لتتوافق مع تطبيقات متنوعة، وقام كذلك بعمل الاختبارات اللازمة للتحقق من مناسبتها لتلك التطبيقات، ومن ثم تدوين تلك الأعمال في أبحاث تم نشرها من خلال مجموعة منتقاة من المجلات العلمية المحكَّمة عالية التأثير. وجاء هذا الاهتمام ليتوافق مع التوجهات السعودية ورؤية 2030 في تطوير الصناعات المتقدمة سواء في المجالات العسكرية أو المدنية. وتتضافر جهود هذا الفريق مع الفرق الأخرى بالجامعة وكذلك مع الجامعات السعودية الأخرى لتحقيق طفرة نوعية تعتمد بعد توفيق الله على عقول وسواعد أبناء هذا الوطن المعطاء لتحقيق رؤية تتسابق مع الزمن لتحمل الوطن لمصاف الدول المتقدمة علمياً وتقنياً، معتزة ومتمسكة بقيمها الراسخة المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية.