عبدالوهاب الفايز
مشهدان من شوارع الرياض يكشفان أهمية الإدارة.. ويقدمان حالة دراسية..
الأول نجده في حال الشوارع عند مقر وزارة الخارجية، والقريبة من الإدارة العامة للمرور، فمن يرى وضع القيادة في الصباح والمساء يُشفق على واقع ومستقبل الحالة المرورية في العاصمة، بشقيها الإداري والهندسي. هذا لا يعني تحميل إخواننا في المرور مسؤولية الحالة المرورية الصعبة، فهم جزء من منظومة متكاملة، وربما يعانون ويتألمون مثلنا، فمدننا تجني الأثر السلبي لحقبة ضعف وتشتت إدارة وتخطيط المدن حيث شهدت مدننا سنوات (المجد للسيارة وللتجارة).
والمشهد الثاني يخص تطبيقات الكفاءة الفنية في التحقيق في الحوادث، ففي الميدان القريب من شركة (نجم)، حيث تلتقي ثلاثة شوارع رئيسية، ربما منكم من يتساءل: هل (نضمن العدالة؟) حين التحقيق في الحوادث المستمرة، وكيف يتم توزيع المسؤولية على الأطراف المتورطة في الحوادث في ميدان مهمل ويخلو من لوحات وشواخص توجه السائقين وتحدد أولوية أو أفضلية المرور، فغياب مُرشدات الطرقات، وضعف الوعي المروري والقانوني جزء من المشكلة.
هذا المدخل للحديث عن الحالة المرورية ربما هو ضروري حتى نضع يدنا على مسار العلاج الشامل الذي نتطلع إليه، فالازدحام في شوارع العاصمة تطور في الأشهر الأخيرة بشكلٍ مزعج وأصبح مصدر قلق ومعاناة، فالناس تقضي فترات طويلة محشورة في سياراتها، والمعاناة ليس من إهدار الوقت فقط، بل هي ناشئة من الصور المؤذية لتجاوز قوانين المرور ومتطلبات السلامة، ومن تجاوز الأخلاقيات والآداب العامة، فهذه الواقع يجعل (المواطن الصالح) الملتزم بالنظام يُمضي وقتاً مؤلماً في الطرقات، ونخشى أن يقدم الوضع المروري صورة سلبية عنا لزوار بلادنا. فما هو التقييم الحضاري الذي سوف يضعوننا فيه؟!
هذا الوضع السلبي مرشح للتطور إذا ظلت حالة السكون قائمة لدى الأجهزة الحكومية التي بيدها التشريع والتنظيم وانفاذ الأنظمة، وبيدها إغلاق منافذ (التوتر الاجتماعي لتحاشي تكلفته السياسية). ضعف آليات إدارة الطرق تهدر الأموال الطائلة المنفقة لتوسعة الشوارع. ومراقبة الطاقة المهدرة في الطرق تحدث عنها معالي وزير النقل المهندس صالح الجاسر في لقائه مع جمعية كتاب الرأي الأسبوع الماضي، فذكر أن لدينا طاقة استيعابية مهدرة، والأهم أن هذا يؤخذ في اعتبارات كفاءة الإنفاق الحكومي.
بسبب عدم ضبط السرعة وتوزيع الحركة في شوارعنا.. طبيعي أن يكون لدينا (زحمة مصطنعة) ناشئة عن ضعف إدارة منظومة السلامة والمرور والنقل. استمرار هذا سوف يترتب عليه اللجوء المستمر لإنفاق مبالغ طائلة لحل الزحمة المرورية وقت الذروة فقط؛ بينما هذه الأموال أولى إنفاقها على الصحة والتعليم والإسكان. عشنا هذا الوضع مع استهلاك الكهرباء، فقد كنا نحتاج طاقة تغطي الذروة في ثلاثة شهور فقط، وهي نفس الطاقة المولدة لتغطي سوريا والأردن ولبنان! وكان التدخل الحكومي النوعي عبر (برنامج كفاءة الطاقة) المتميز الذي يقدم نموذجاً يحتذى للتدخل الحكومي الفعال حيث رتب أولويات المشكلات وحدد التدخلات السريعة والاستراتيجية، وترتب عليه إنشاء هيئة لتنظيم قطاع المياه والكهرباء، ثم كان برنامج الدعم الذكي لاستهلاك الكهرباء.
الزحمة المصطنعة هذه يمكن علاجها بشكل سريع عبر برنامج متكامل يبدأ من حاجة الإنسان إلى السلامة بالذات المشاة. حقوق المشاة هي المرتكز الاستراتيجي لكفاءة إدارة المرور والنقل، وهذا ما طبقته العديد من الدول. اهتمام الدول بحقوق المشاة مؤشر على النضج الحضاري. إذا وُضعت حقوق المشاة وسلامتهم في مقدمة صنع سياسات المرور والنقل. تحقيق هذا الهدف الإنساني له أثرٍ متعدٍ، إذ يتطلب عمليات واسعة هندسية وإدارية وتربوية، وحقوقية. مثلا، في أحد شوارع الرياض الواسعة، إذا عالجنا ممرات المشاة سوف نخفض أخطر عنصر في شوارعنا وهو السرعة. وهذا يرفع السلامة للمشاة ويسهل حركتهم، ويقلل الضوضاء ويخفض استهلاك الطاقة. لدينا ملايين البشر يذهبون للصلاة خمس مرات في اليوم.
السلامة على الطرق مصدر قلق يحظى بالأولويات الحكومية في العديد من المدن العالمية التي تستهدف جودة الحياة وتستهدف أن تكون أكثر ملائمة للعيش. فحياة مستخدمي الطرق الأكثر ضعفا وهم المشاة وراكبي الدراجات، هؤلاء الأكثر عرضة للخطر. وشعور الناس بالأمان في الطريق ضروري حتى نعزز الجهود والسياسات التي تحث على المشي وركوب الدراجات، وغيرها من الأنشطة الحركية.
لا تعتقدوا أن المرور بيده الحل الجامع المانع، فالنطاق العملي للإدارة العامة للمرور لم يتوسع منذ نهاية القرن الماضي. الواقع الجديد والمستقبلي للعاصمة يحمل تحديات كبيرة تتطلب الانتقال النوعي للتدخلات الحكومية حتى تلبي متطلبات السلامة وحفظ الأرواح وتواكب مستهدفات جودة الحياة.
نحتاج عدة أمور منها: إعادة هندسة الحياة الاجتماعية، وتطوير بيئة العمل، وتحديد فترة دوام واحدة، وتبني خطة مرورية متطورة للعاصمة تأخذ في الاعتبار تغيير مسارات الطرق صباحا ومساء، ومنع الوقوف عند التقاطعات الرئيسية بشكل دائم عبر عزل المحلات التجارية بسياج حديدي، بالذات عند مخارج الطرق الرئيسة الناقلة للحركة مثل طريق أبو بكر الصديق، فالحركة تتعطل بسبب الوقوف المزدوج عند المحلات التجارية.
أيضا نحتاج إعادة النظر في آلية المخالفات المالية حتى نستهدف التركيز على جانب التربية السلوكية عبر التدرج في الغرامات والعقوبات لترويض حالة التهور والاستهتار بالأنظمة.
بما أن السلامة جزء أساسي من التنقل الحضري المستدام، الذي نحتاجه هو: (هيئة وطنية للسلامة المرورية) تعمل برؤية ورسالة وبمهام شاملة وممكنات مادية وبشرية تعالج أسباب المرض. لا يمكن أن يكون القطاع هو المنظم والمنفذ، أي هو الخصم والحكم. لقد تنبهنا إلى هذا المرض في الإدارة العامة ونجحنا في علاج عدد من القطاعات. الحديث ذو شجون والآلام، وثمة وقفة أخرى!