م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - الزعيم التركي «مصطفى كمال» فرض تطبيق مقومات الحداثة على الأتراك بالقوة الجبرية في سبيل تأسيس الدولة التركية الحديثة.. فألغى السلطنة العثمانية (عام 1922م) وأعلن الجمهورية، وألغى منصب الخلافة، ومنصب شيخ الإسلام (المفتي)، ووزارة الشريعة، والمدارس الدينية، والمحاكم الشرعية.. كما حل الفرق الصوفية، وأغلق الأضرحة، ومنع الألبسة الدينية ولبس الطربوش، وفرض لبس البنطلون والقبعة الغربية، وأصدر قانوناً جديداً للأحوال المدنية مؤسساً على القانون السويسري.. ثم منع إطلاق اللحى، واستبدل التقويم الهجري بالتقويم الميلادي، والحروف العربية بالحروف اللاتينية.
2 - تصرف «مصطفى كمال» - الذي لقبوه «بأتاتورك» وتعني أبو تركيا - هو تصرف تعسفي تسلطي ليس لأحد غيره فيه رأي.. آذى الناس في حينه وفجر المجتمع التركي من داخله بصاعق الحداثة بشكل حاد وفج.. لكن ماهي الخيارات التي كانت أمامه؟ لقد وجد أن تركيا بعد الحرب العالمية الأولى دولة متخلفة بكل المقاييس، وهي التي كانت ترى في نفسها أنها سيدة الأمم، والتي تحدت أوروبا كلها أكثر من أربعمائة عام.. ثم فجأة وجدهم يرثون كل مستعمراته في العالم العربي وشرق أوروبا، ويصفون تركيا بالرجل المريض الذي ينتظرون موته.. فكان لا بد من علاج قسري بنظر أتاتورك عاجل «باتر» ليس للحلول الوسط فيه مكان، وليس لمراعاة الخواطر أو العادات أو التقاليد أو الأعراف أو الثقافات أو بعض النصوص الدينية مجال.. وكانت العملية بالنسبة له عملية إنقاذ فضحَّى بما يمكن التضحية به في سبيل إنقاذ أصل الجسد.
3 - اليوم وبعد مضي مائة عام على إصلاحات «أتاتورك» ما هي النتيجة؟ هل تحقق لتركيا أن تكون دولة أوروبية؟ هل تحققت التنمية المرجوة؟ كيف نقارن وضع المجتمع التركي المعيشي اليوم بوضع بقية المجتمعات الأوروبية؟ الواقع يقول إن حجم النجاح الذي تحقق لا يساوي حجم التضحيات.. ثم يمكن أن نتابع الأسئلة بسؤال آخر: لو لم يفعل «أتاتورك» ما فعل هل من الممكن أن تكون هناك دولة تركية أصلاً أم مساحة جغرافية فيها مجتمع فقير تديرها حكومة فاشلة كما حصل في ألبانيا، أو يتم تقاسم أجزائها فتعود القسطنطينية (إسطنبول) إلى أهلها وكذلك بقية أجزاء تركيا الحالية يتم استردادها من قبل الدول المجاورة التي تم أصلاً اقتطاعها منها؟
4 - لو قارنا ما فعله «أتاتورك» في تركيا بما فعلته عائلة «ميجي» في اليابان لوجدنا تقاطعات كبيرة وكثيرة بينهما لكن في ذات الوقت سوف نجد اختلافات كثيرة وكبيرة أيضاً.. فعائلة «ميجي» لم تغير حروف لغتها، ولم تجبر الناس على ترك معتقداتهم لكنها شجعتهم على إعمال العقل ونقد الغيبيات والأساطير، شجعت على اللباس الغربي لكنها لم تعاقب من احتفظ بلباسه التقليدي، لذلك لم يتصادموا مع المجتمع ولم يعسفوه بالقوة الجبرية.. والأكيد أن المجتمع الياباني لم يتعرض لنفس المعاناة التي تعرض لها المجتمع التركي في التحول نحو الحداثة، وهو اليوم بأفضل حال على مستوى مجتمعات العالم وليس مقارنة بالأتراك فقط.. الحقيقة أن الحكم الرشيد هو الفيصل في نمو أي مجتمع أو تخلفه.