د. هيثم الصديان
حدث أنّ الصوت العربي عبر الأثير القطريّ يتغنّى بالسّعوديّة؛ فيصدح صوته في شوارع لاذقيّة العرب ومقاهيها كان برتراند راسل (Bertrand Russell) قد قال: إنّ الإنسان ما زال يسعى إلى تحقيق رغباته وإثبات قوته وتمكين سيطرته. لكنّه ابتكر وسائل جديدة للمنافسة فيها وتحقيقها، من مثل الرياضة وغيرها من الفنون والمسابقات (Authority and Individual. P22).
ونحن لا نتوسّل هنا بقول راسل حتّى نسوّغ فرحتنا بفوز المنتخب السعوديّ على «لا نظيره» العالمي المرشّح فوق العادة لإحراز اللقب، المنتخبِ الأرجنتيني المترع بنجوم اللعبة على صعيد العالم، والذي يقوده «أسطورة» الحاضر على مستوى هذه اللعبة ليونيل ميسّي (Lionel Messi)، وهم يقاتلون لنيل لقب العالم على أرض قطر، ويقف من خلفهم أكثر من ثلاثين مليونا يكوّنون دولة الأرجنتين ويعشقون هذه اللعبة حدّ الجنون. فرحّة وبهجة قد تخجل من التغنّي بها بعض فئات طبقتنا المثقّفة التي تراها تجرح كبرياء الشّمم النخبويّ، وتخدش حياء زيّها الأكاديميّ، وتهزّ أسس تعالي برجها العاجي. أو تراها تعبيراً عن واقع حال متردٍّ وصلت إليه هذه الأمّة؛ فصار همّها ووهمها وعقلها معلّقة بأرجل أولئك اللاعبين، في حين كان يفترض بحسب رأيهم وأمانيّهم أن يكون عقلها وتفكيرها يتطلّعان إلى برجهم العاجي الذي يسكنه العقل النخبويّ «المتنوّر».
وهذا الرأي أو الافتراض الذي صار مصادرة على المطلوب صحيحٌ ووجيهٌ. لكنّ ما هو غير صحيح وليس بوجيه أنّ هذا العقل تناسى أو تجاهل أنّ النّاس لو وجدت في عقلهم النخبويّ خيراً وغيثاً ينزل نفعهُ عليهم من عليائه، فيعمّ الجميع ويحقّق لهم ما يغنيهم أو يحيي فيهم آمالهم الحضاريّة أو الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصاديةّ، لو وجدتْ فيه ذلك أو شيئاً من ذلك لأقبلت عليه واحتفت به. هذا على المستوى المعرفيّ الأبستمولوجيّ.
وأمّا على المستوى الاجتماعيّ فإن النّاس تتطلّع إلى ما يناسب عقولها ويلبّي حاجيّاتها التيموسيّة (thymusism) ويملأ فراغها. وهذا ما تلبّيه الأقدام حين عجز واقع الإقدام العربي المعاصر عن ملئه بغير خيبات السياسة وأخبار صراعاتها وجرائر فقرها وويلات حروبها وعجزها الاقتصادي والحضاريّ. وأيضاً على المستوى الوجودي فإنّ الرياضة اليوم باتت نمطاً جديداً من أبواب تنافس الأمم الحضاريّ. باب لا يلغي الأبواب الأخرى، ونمط يسعى إلى استبدال إشباع نهم الذات البشرية بشيء جديد يتجاوز به نمط الصراع الحيواني الدموي الذي يسلك مسلك الحرب والقتال. نمط لا زال يكافح لإلغاء النمط الحيواني إلغاءً نهائيّاً.
يوم لوسيل- المفارقة الفيزيولوجيّة وكسر أفق التّوقّع (الرياضة توحّدنا):
في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني وعلى أرض دولة قطر في ملعب (لوسيل) تمكّنت الأقدام ما لم تتمكّن منه العقول، وتَجسّدَ شعارُ بطولة العالم الذي أعلنته قطر تجسيداً بشرياً وسياسياً واجتماعياً؛ فكان بياناً وعياناً: (الرياضة توحّدنا) نحن -العرب- الذين أنهكتنا خلافاتنا المعاصرة ولم تتمكّن مساعينا النخبويّة ولا السياسية المدعومة بتاريخ مجيد ولغة عريقة جامعة ودين عظيم، لم تتمكّن خلال سنوات طوال وندوات وحوارات ومفاوضات ونقاشات استغرقت أشواطاً وأشواطاً وأنهكت ميزانيّة أمّة كانت غنيّة برصيدها التاريخي والحضاري والوحدوي، كلّها لم تتمكّن أن تنجز ما أنجزته الرياضة في شوط واحد، شوط قلب هزيمة عربية جديدة إلى نصر رياضي على أفضل فرق العالم، نصر أُعلن في خليجها على مقربة تاريخيّة من يوم ذي قار وعلى بعد حذفة عصاً من مكانه يوم كان؛ فذاع خبره ووصلت بشراه أهزوجةً على مواقع التواصل الاجتماعي، تتغنّى به الجماهير العربية من محيطها إلى خليجها. لقد حوّلته تلك الجماهير، المتعطّشة إلى الفخر، إلى يوم عربيّ للمفخرة، يومٍ ينتصف فيه العرب من الهزيمة التي أثقلت كاهلهم وهي تتربّع عليه منذ زمن ليس بالقصير.
اللاذقية بين يومين:
1- بالأمس المأزوم:
قيل يوماً: «سوريّة قلب العروبة النّابض». ومّما قيل أيضاً: إنّ اللاذقيّة هي «لاذقيّة العرب». وهذه شعارات سياسيّة، يضعف وجودها أو يقوى أو يتبدّل بتبدّل الأحوال والسياسات. فقبل سبع سنوات في أتون غليان الكارثة السورية وما تشهده من دماء تسيل في الشوارع، كانت في يوم ما هذه الدماء وثاق رَحم ورابطة عروبة، في تلك الأيام كان التغنيّ بالعرب والعروبة في اللاذقية يحتاج من المتغنّى أن ينظر يمنة ويسرة ويحتاط لصوته ولعباراته. لكنّ مجرّد ذكر اسم السعودية أو قطر على نحو غير قدحي أو من غير اتّهام بالخيانة والتّواطؤ على تدمير سوريّة، كان كفيلاً بتنتيف لحيتك أو تمزيق ثيابك وربّما جسدك في الشارع من المكلومين والمتعصّبين والمفجوعين، لتُرمى بعدها في السجون إلى أن يشاء الله لك الفرج.
هذه الحزازة وهذا الغضب راح يخفّ يوماً إثر يوم، لتعود الناس إلى فطرتها وتربيتها وثقافتها العروبيتين، وإن رويداً رويداً.
2- اليوم العربي الجميل- ذي قار الجديد:
قد تصعب المقارنة أو تستحيل بين يوم «انتصف فيه العرب من العجم» حتّى تغنّى به رسول الأمّة وضمن له الخلود في ذاكرة العرب وتاريخها، وبين يوم لوسيل، حين فاز المنتخب السعودي على المنتخب الأرجنتيني. قطعاً لا مقارنة بين انتصار ذي قار المجيد ولعبة يفوز بها مجموعة من شبان دولة عربيّة ما على شبّانٍ أقرانهم. هذه محطّ سخف لا يخّفف من مستوى سخافته حتّى ما أشرنا إليه أعلاه من أبعاد أبستمولوجيّة ووجودية وحضارية، ولا يزيل تهافت منطقه حتّى إن شفعناه بقول راسل ودلالته في التّحوّل الحضاري في أنماط الصراع البشري؛ إذ لا مقارنة بين نصر وجوديّ وحضاريّ وفوز في لعبة.
نعم نحن لا نقارن النصر بالفوز. لكنّنا نشبّه النصرَ بالنصرِ، نصر تاريخ وجودي وحضاري للعرب بعد فرقتهم عبابيد على أقوى الدول وأعرق حضارات العالم القديم، ونصر للعرب على مفهوم الهزيمة في حاضرنا المعاصر؛ فمعركتنا اليوم ليست دمويّة ضدّ بشر أو أمّة أو جنس من الأعراق، معركتنا ضدّ مفهوم الهزيمة الحضاريّة. وحتّى هذا ليس ذا أهميّة في مقابل الإنجاز الأهمّ الذي بدأ من قطر وانتشر عبيره من خليجنا إلى محيطنا.
لقد كان في تغلّب المنتخب السعودي إنجازان: فوز رياضيّ يحسب للسعودية رسميّاً وللقارّة الصفراء عامّة وللعرب معنويّاً، فوز يُحصر على مستوى الرياضة فقط.
أمّا الإنجاز الأجمل فهو النصر المعنويّ على مفهوم الهزيمة الذي يحتلّ دواخلنا العربيّة ويعشّش كالسّرطان داخل ذهنيّتنا وعقلنا الجمعيّ. وقيمته لا تكمن في ذاته فقط، فهذا لا يحقّق له التشبّه بيوم ذي قار، إنّما قيمته تكمن في كونه كان وسيلة استطاع في دقائق معدودة أن يجمع العرب مرّة أخرى على قلب واحد، فيصدح صوتا المعلّقين العماني واليمني عبر أثير قنوات بي إن سبورت (bein sports) القطرية من أرض قطر تغنّياً بفوز الأخضر السعوديّ، صوتان طارت بهما قنوات قطر حتّى أدخلتاهما إلى مقاهي المدن العربية وبيوتها كأنّهما قصيدتان معاصرتان تحاكيان تلك القصيدة التي تغنّى بها الأعشى بيوم ذي قار:
لو أنَّ كلّ معدٍّ كان شاركنا في يوم ذي قار ما أخطأهم الشرفُ
يوم فرحت له شوارع قطر قبل أن توصل قنواتها بشراه إلى غيرها من شوارع العرب.
لكنّ الحدث كان في اللاذقية... كان حدثاً لم تلتقطه وسيلة إعلاميّة ولم يدركه العقل النخبويّ، فيتمعّن فيه ويعيد بوساطته حساباته أو ينقّح تحرير نتاج طبعات فكره السابقة التي ما برحت تبحث في عقبات الواقع العربي من دون أن تهتدي إلى حلّ. يوم شهد في اللاذقية ما غاب عنها منذ سنوات طوال؛ فقد عاد الصوت العربيّ مجلّجلاً عالياً يملأ شوارعها ومقاهيها.
في البدء راحت الناس تتوافد تباعاً إلى المقاهي لعلّها تروّح عن نفسها ساعة أو ساعتين من الزمن، في مدينة لا ترى الكهرباء أكثر من ساعة في اليوم، في مدينة يصعب أن تجد فيها حافلات تنقل الناس لقلّة الوقود، في مدينة يبيت فيها كثير من أهليها وقاطنيها على الطوى بعد سنوات من الحصار والدمار والحرب أنهكت بلداً وتركته منسيّاً على حافّة الذاكرة وعلى قارعة طريق المونديال. اجتمعوا متغالبين على واقعهم الكارثيّ، وأكثرهم ضامن أن الأرجنتين ستجعل السعوديّة أضحوكة هذا اليوم. وأغلبهم لا يقبل أن يرى نجمه المفضّل ميسي مكسوراً، في هذا اليوم الذي ستكسر فيه الأرجنتين الرقم المسجّل باسم إيطاليا كأكبر عدد من المباريات من دون هزيمة.
انتهى الشوط الأوّل والتوقّعات في طريقها إلى التحقّق. لكنّ الحال تبدّلت؛ فما إن بدأ الشوط الثاني وعادلت السعوديّة، ثمّ لم يكد ينتهي النقاش حول ما جرى حتّى قلب أبناء جزيرة العرب الهزيمة إلى فوز أذهل العالم مثلما أذهل مقاهي اللاذقية وشوارعها. وراحت الأصوات تعلو رويداً رويداً، ورفع القائمون على تلك المقاهي الصوت إلى مستواه الأعلى، حتى صار الصوت العربيّ صوت اللاذقية الأعلى. وبدأت الابتسامات ترتسم على محيّا المشاهدين وأخذت سرائرهم تتهلّل؛ ليدركوا من جديد أنّ دماءهم العربيّة ستبقى عربيّة رغم ما سال منها على مرأى من عيون عروبتهم، وليثبتوا للجميع أنّ سوريّة الجائعة تشبع حين ترى إنجازاً يضاف إلى خزينة الفخر العربيّ ورصيده حتّى لو كان إنجازاً رياضياً. ولأوّل مرّة منذ سنوات سهرت اللاذقية على التغنّي بإنجاز السعوديّة الرياضيّ.
خاتمة أبستمولوجيّة:
كان الدين وسيلة جمعت العرب وجعلتهم في مقدمة الركب الحضاري. فالدين لم يتغير، والعروبة لم تتبدّل، لكنّ حامليهما اليوم غير حامليهما ذاك اليوم. وكلّ هُوِيّة أو رابطة تفتقد إلى الإنجاز ستتحوّل من وسيلة جمع إلى وسيلة تشتّت وفرقة. ليس ذاك من عيب طارئ أو أصيل على تلك الهُوِية أو الرابطة. إنما هما مثلهما مثل كرة القدم؛ فحين يعجز اللاعبون عن بلوغ المستوى ويصير العيب فيهم، فإنّك تضطّرّ إلى تغيير العقليّة الرابطة بتغيير المدرب وليس بتغيير اللاعبين. وحين يحقق أبناء هذه الهوية أو الرابطة دورهم المأمول بما يمكّنهم من العودة إلى المسار الحضاريّ المتقدم، حينها فإنّ اللاوعي الجمعي وما يترتّب عليه من المشاعر والوعي المدرك ستحوّل كل قيمة سلبيّة كانت في لا وعيها سابقاً إلى قيمة إيجابيّة. ولن يجد أبناؤها من بدّ إلّا في الانتماء والعودة إلى هذه الهوية أو الرابطة. هذا ما جسّدته اللاذقية والمدن العربيّة أجمع، يوم فازت السعودية. لكنّ ما حدث في هذه المدينة كان تجسيداً للوحة جماليّة تتطلّب من العرب إعادة تأمّلها ومراجعة التفكّر في جماليّتها، حين ضحّت بدماء الموت لأجل دماء الرحم والانتماء، فصنعت بدمائها وجوعها لوحة عربيّة الأصباغ.
لقد جاء الغربيون إلى المونديال وهم يعيشون حروباً وانقسامات (ولن توحّدهم الرياضة هذه المرّة)؛ فكان مونديالنا مونديال اجتماعنا على قلب واحد. ولا يهمّ سواء ربحت منتخباتنا أم لم تربح. فربحنا وفوزنا ونصرنا بحسمٍ نهائيّ لخلافاتنا وإنهائها.