أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الشعر ديوان العرب لأنهم كانوا أميين، وكانوا رجال شعر وخطابة، وكانوا يحفظون الشعر، ولم يكونوا أهل كتاب.. حينئذٍ جعلوا الشعر سجلاً لحياتهم يدونون فيه أخبارهم وخلجاتهم وحكمهم وأمثالهم السيارة، وكل ما يعده العربي فضيلة يرد في شعره فخراً أو توصية، وكل ما يعده رذيلة يأتي في شعره هجاء وتعبيراً، أو تنفيراً وتحذيراً؛ لهذا كان الشعر ديوان العرب، ولهذا كان العربي يأخذ من الشعر برهانه على أن ذلك الأمر فضيلة أو رذيلة، ذلك أن الحكمة تلتمس من الشعر دائماً، وكانوا أيضاً يأنسون بالأسطورة؛ لأن شاهدها من الشعر، مثل هذه الأبيات التي رواها الفراء عن النعامة:
مثل النعامة كانت وهي سالمة
أذناء حتي زهاها الحين والجبن
جاءت لتشري قرناً أو تعوضه
والدهر فيه رباح البيع والغبن
فقيل أذناك ظلم ثمت اصطلمت
إلى الصماخ فلا قرن ولا أذن
.. (انظر (مقاييس اللغة) 3/ 299).. وعند أهل نجد أساطير يحوكون بعضها تسمى سباحين، وأكثر ما يتعلل بها العجائز، ويستفتحونها بقولهم: (سبحان هاك العالي في سماه)، ولا يشكون في أنها كذب، وفيها شعر نجدي إلا أنه ضعيف ميت.. ومن نماذجها ما ورد بكتاب (أساطير شعبية) للأستاذ عبد الكريم ابن جهيمان رحمه الله تعالى؛ وهذه السباحين ليست محل عناية هذا البحث إلا ما جاء من باب المقارنة، لأنها عند المتلقي والسامع معاً من باب الأسطورة؛ وإنما موضوع هذه الدراسة الأساطير التي تساق الأشخاص تاريخيين حقيقيين، وتتناقلها الدهماء على أنها تاريخ حقيقي وفي قمة ذلك القصص والأشعار المنسوبة لبني هلال برواية العوام من أهل نجد.
قال أبو عبدالرحمن: لي كتاب عن بني هلال الحقيقة وبني هلال الأسطورة غير الكتاب الذي نشر بمشاركتي للدكتور عبدالحليم عويس، بينت فيه أسطورية الرواية العامية النجدية، ونشرت بعض مواده بجريدة الجزيرة.
قال أبو عبد الرحمن: وكل حدث هلالي، وكل شعر هلالي بعامية أهل نجد ليس له وجود كما هو في التاريخ الحقيقي، أو الأسطورة المدونة بلهجات البلدان العربية لاسيما لهجة المغرب، أو الرواية الشفوية في الأقطار الأخرى: فهو صياغة أسطورية نجدية، ذلك أن مصادر السيرة الهلالية وأدبها محصورة في تواريخ أهل العلم كابن خلدون، ونسخ الأسطورة المدونة، والرواية الشفوية المتجددة.
والصياغة النجدية تلتمس مصادرها في التالي: أولاً نص تاريخي محقق.. وثانياً أسطورة مدونة.. وثالثاً رواية شفوية أقدم من الرواية النجدية فيكون الحكواتي النجدي نقل التاريخ أو الأسطورة بلهجة نجدية، وربما حوَّر وزاد ونقص؛ فإذا عدمت هذه المصادر تعين أن يكون عمل الحكواتي النجدي محصوراً في التالي: ابتداع الحدث والشعر، وتلفيق عمله من أشعار أو أحداث أو أساطير (وإن لم تكن هلالية) عن عمد، ورواية شعر أو حدث تاريخي أو أسطوري لغير بني هلال على أنه لبني هلال عن وهم وخطأ، أو اعتقاد بأن كل شعر عامي قديم هلالي كما يسمي العرب الفصحاء كل قديم عادياً نسبة إلى عاد ولأنَّ الرواية الهلالية النجدية الشعرية حددت مثالاً في الهلالي قافية ووزناً ولغة تقرب من الفصيح؛ فيشتبه الأمر على الناقل النجدي، فيحسب كل شعر بهذه الصفة شعراً هلالياً.. إن الحكواتي النجدي متعلماً وعامياً يجيد صنع القصة وشاهدها من الشعر والمثل، ويختلق النكتة .وقد يبتدع كل ذلك ابتداعاً كما في أغلب السباحين، وقد يحور مأثوره، ويتصرف فيه، ويختلق منه أسطورة، ومأثوره إما نقل ثابت موثق من شعر وغيره، وإما نقل موهن أو مقطوع بكذبه، فيولد الأسطورة من الأسطورة كمعظم القصص الشعبي والشعر العامي النجدي لسيرة بني هلال ولا يشترط أن يكون المأثور بعيد العهد جداً فهذه مويضي البرازية حديثة العهد عاصرت الإمام فيصل بن تركي ، ومحمد بن عبدالله بن رشيد فصاغ الحكواتي النجدي من شعرها أسطورة حجول.
وهذا نمر بن عدوان من أعيان آخر القرن الثالث عشر الهجري، فحاك الحكواتي من فجيعته في وضحاه أسطورة موجزها أن نمراً نفسه ذبح زوجته وضحاء يحسبها حائفاً، وساعد على ذلك أن نمر عمق المأساة بشعره الكثير.. قال أحمد شوحان عن هذه الأسطورة: ((للعدوان أعداء كثيرون، ولنمر منهم خاصة أعداء لا يحصون، وقد كان يملك فرساً أصيلة صنع لها قيداً من الذهب الخالص وجعل مفتاح القفل لدى زوجة وضحا لثقته بها ومكانتها منه .وقد كانت تلك الفرس أمنية كل لص وفارس ، ومطمع كل صعلوك وغاز، لذاوهب أعداؤه لمن سرقها من نمر أن يملؤوا خرجها له ذهباً ، لذلك كان نمر لا ينام إلا وبارودته محشوة وجاهزة ومبسوطة بجانب فراشه خوفاً من مباغتة العدو له أو مداهمة اللصوص داره.. وفي يوم من الأيام نسيت وضحا الفرس بلا تقييد، وفي منتصف الليل تذكرت الفرس فقامت من فراش زوجها بهدوء وبطء، ثم ذهبت إلى الفرس وأخذت تدخل يديها في الزرد، وفي هذه الأثناء استيقظ نمر من نومه، فنظر فشاهد شخصا ما بين يدي الفرس، ولم يفطن لوضحا، فظن أن لصاً جاء يفك قيدها ليسرقه فحمل بارودته وصوبها نحو الشخص، ثم قدح زنادها، فانطلقت الحشوة نحو وضحا، فانقلبت وقالت له: لقد قتلتني يا نمر قام نمر مولولاً باكياً نادماً على خطئه، لكن الندم لم ينفعه إذ ماتت وضحا ودفنها.. لكن نمراً لم يدفن حبه ووداده معها، بل جن جنونه، واختل توازن شعوره، وطاش صوابه، وعانى بسببها ما عانى، ونظم القصائد الكثيرة حتى قيل: إنه قد تزوج تسعين امرأة بعد ذلك كل واحدة منهن اسمها وضحا من بنات شيوخ القبائل، ولم تكن واحدة منهن کوضحا الأولى إن صحت الرواية!!.. وقد تناقل الناس والشعراء كثيرة من شعره، وكان أبناء وادي الفرات والبادية يحفظون هذه الأشعار ويتناقلونها)).. انظر (ديوان نمر) ص18-19، وتابعه إبراهيم السليمان الطامي في ديوان من الشعر النبطي المختار 1/ 156.. قال أبو عبدالرحمن: قصة الفرس هذه مشهورة عند الحكواتية بنجد، وعليها شواهد شعرية منسوبة إلى نمر لا تصح.
قال أبوعبدالرحمن: لم يذكر الحاتم أسطورة قتل نمر لزوجته خطأ؛ بل ذكر وفاتها فحسب قضاء وقدراً، وليس في شعر نمر الصحيح ما يدل على هذه الأسطورة، بل فيها ما ينفيها وهو قوله:
البارحة يا عقاب يوم القمر غاب
بليلة العيد السعيد الجديد
عيد سعيد في ضحى العيد لي طاب
حاضر وناظر في معايد وديدي
قال أبو عبدالرحمن: في الأصل: بمعايد.. بضحي العيد.. والمعنى: طاب لي العيد من أجل حبيبي (وديدي) أحضره وأنظر إليه.
من عيدنا هذا طفر قلبنا وشاب
صار أتعس الاعياد يا عقاب عيدي
أمر جرى لي بالمقادير واسباب
غصب عني يا عقاب ويش عاد بيدي
محبوبي اللي قد سقاني شهد ذاب
ارياح من فحفاح سوق البريد
قال أبو عبدالرحمن: في الأصل: محبوبي اللي انا سقاني شهد أصفا ذاب.
يا عقاب انا جيت المحلة من غياب
نبهتهم يا عقاب وايا العبيد
قال أبو عبدالرحمن: في الأصل: كنت غياب.. نبهت الخدم.
سايلتهم عن صاحبي وين هو غاب
قال استمع يا نمر ما هو بعيد
زاير هله يا نمر بالسايح ذياب
سريع يلفي والمحبة تزيد
** **
كتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -