جواهر الرشيد
حيَّرت الطَّبيعةُ أذهانَ الشّعراءِ فجعلتهم يتفكَّرون في تفاصيلِها حتى دخلوا عالمَ التَّأمّلِ في
الكونِ والإنسان، وإنَّ الحروبَ والمعاناةَ مِن الفقرِ والتَّغرُّبِ والجوعِ والمرضِ والفقدِ وآثارِها
دفعتْ الشُّعراءَ إلى التَّعمقِ في التَّأمّلِ مِمَّا أخذهم بعيدًا عن الواقعِ والعَدولِ إلى الانطواءِ على ذواتهم متلمِّسين عزاءَ وجدانِهم وأذهانِهم من الطَّبيعةِ تخفيفًا عن آلامِهم، متأمِّلين
الجمالَ المحاطَ بينهم، باحثينَ عن الأملِ مبتعدينَ عن اليأسِ مستندينَ إلى تلك الرُّموزِ التي تُعبِّرُ عن آلامِهم بطريقةٍ يكسوها الغموض، وقد اعتمدوا بعد هذا التَّأمُّلِ على الرَّأي الذَّاتيّ نتيجةً لأفكارِهم ونظراتِهم إلى الحياةِ والكونِ حتى تفاوتَتْ هذه النَّتائجُ على حسبِ العمقِ الفكريّ والنَّمطِ الشَّخصيّ والتَّجاربِ الحياتيَّةِ والظّروفِ، والبيئةِ، والمكانةِ العلميَّةِ والثَّقافيَّة.
إنَّ الإنسانَ يحكمُه عقلٌ وقلبٌ يسيرانِ به إلى عالمِه الواقعيّ، وإنَّ التَّأمُّلَ يثيرُ التَّساؤلاتِ حولَ النَّفسِ والحياةِ والطَّبيعةِ، فقد يُضلُّه عن يقين سرِّ الحياةِ أو يُهديهِ صراطًا لا يَشقَى بعدَهُ ولا يَغوى. وأعظمُ ما يواجِه الإنسان الحيرة الملازمة بحثًا عن حقيقةِ ثنائيَّةِ الموتِ والحياةِ واليأسِ والأملِ التي عجزَ عن الوصولِ إليها الكثيرُ من الشُّعراء، فالصِّراعُ بين النَّفسِ الإنسانيَّةِ والعقلِ البشريّ قائمٌ لا مَحالة، وإنَّ الشَّاعرَ ينقلُ هذه الحيرةَ عن طريق اللغةِ باعتبارِها أداة للتَّعبيرِ مُستمِدًّا ألفاظَها من ذائقتِه الشِّعريَّةِ وحسِّه اللغويّ وقدرتِه الوصفيَّة، فهو يُشخِّصُ الطَّبيعةَ ويُجسِّدُهَا على هيئةِ كائناتٍ تتحدَّثُ ونفوسٍ تشعرُ بإحساسٍ عميقٍ يمدّه إلينا عن طريقِ ابتكارِه معانٍ جديدةٍ من خيالِه الواسع، فالطَّبيعةُ في القصائدِ الفلسفيَّةِ الحديثةِ لم تعُدْ منظرًا حسيًّا فحسب.
رمزَ شاعرُ التَّأمّلِ والإنسانيَّةِ -إيليا أبو ماضي- إلى الحزنِ بلفظِ (المساء) الذي جعله عنوانًا لقصيدتِه، صوَّرَ في مطلعِها الطَّبيعةَ تصويرًا قاتمًا تعبيرًا عن اليأسِ والخوفِ من إقبالِ الكهولة، فكأنَّ وقتَ الغروبِ إقبالٌ للشّيخوخةِ وتوديعٌ للصِّبا، وقد رمزَ إلى الشَّخصَّيةِ المتأمِّلةِ باسمِ (سَلمى) وهو الاسمُ المحبَّبُ إليه؛ لأنَّه اسمُ والدتِه، وقد يكونُ ذِكرُ سَلمى رمزًا لنفسِه المتأمِّلةِ، يقول:
السُّحبُ تركضُ في الفضَاءِ الرَّحْبِ ركضَ الخائفين
والشَّمسُ تبدو خلفَها صفراءَ عاصبةَ الجبين
والبحرُ ساجٍ صامِتٌ فيه خشوعُ الزَّاهدين
لكنَّما عيناكِ باهتتانِ في الأفقِ البَعيد
سَلمى بماذَا تُفكّرين .. سلمى بماذَا تحلمين
أَرَأَيتِ أَحلامَ الطُفولَةِ تَختَفي خَلفَ التُّخوم؟
أَم أَبصَرَت عَيناكِ أَشباحَ الكُهولَةِ في الغُيوم؟
أَم خِفتِ أَنْ يَأتي الدُّجى الجاني وَلا تَأتي النُّجوم؟
وقد رمزَ إيليا إلى الشَّبابِ وروحِ الأملِ بلفظِ (الضُّحَى) مُصوِّرا التَّوهُّجِ الوَضَّاحِ في وجنةِ سَلمَى الصَّبيةِ حتى هاجمَها المسَاء! وغشَّى عليها الظَّلامَ وسادَ حولَها الصَّمتُ واختفتْ عنها تغاريدُ الطُّيورِ فسَلبَ منها هذا التَّوهجَ والابتسام، وعمَّهَا اليأسُ واعترتها الكآبةُ، يقول:
هذي الهواجسُ لم تكنْ مرسومةً في مقلتَيكِ
فلقد رأيتُكِ في الضُّحَى ورأيتُه في وجنتَيكِ
لكنْ وجدتكِ في المسَاءِ وضعتِ رأسَكِ في يدَيكِ
وجلستِ في عينيكِ ألغازٌ، وفي النَّفسِ اكتئابْ
مِثلُ اكتئابِ العَاشِقِينْ
سَلمى بماذَا تفكرينْ؟
إنَّ الوقوفَ عندَ أسرارِ الحياةِ والأسيّةَ على مَا فاتَ يُطفِئُ نشوةَ الوِجدان، فإنْ كانَتْ الكهولةُ تَسلبُ جمالَ ريعانِ الشَّبابِ فلن تَسلبَ من الإنسانِ جوهرَه وأصلَه، وإنْ أخفَى الليلُ بعضَ جمالِ معالمِ الطَّبيعةِ فلهُ جمالُهُ الأَخَّاذُ وطبيعتُه السَّاحرة، ولكلِّ وجهٍ جَانبٌ له إشراقُهُ وتألُّقُه.
تأثَّرَ إيليا بأصحابِ الرَّابطةِ القلميَّة من ناحيةِ التَّأمّلِ في الحياةِ الإنسانيَّةِ، والشَّعورِ بآلامِ البشرِ وأحوالِها، والتَّأمّلِ في الطَّبيعةِ؛ بحثًا عن حقيقةِ الوجودِ مُتَّخِذًا منهجًا مُغايرًا عن أصحابِه وهو الواقعيَّةُ في التَّفاؤلِ، فهو راضٍ بقسمتِه، مبتهجُ النَّفسِ، معترِفٌ بمشقَّةِ الحياةِ متجاوزٌ إيَّاها وما ترتَّبَ عليها من قلقٍ وحَيرة. إنَّه يغمرُنَا بفلسفةِ الأملِ الجميلِ والنَّظرِ بعينِ التَّفاؤلِ والإيمانِ بروحٍ واعدةٍ لحبِّ ذاتِها والحياة، فجمالُ النَّفسِ يُضفِي جمالًا على الحياةِ، والإيمانُ بهذا الشُّعورِ أصدقُ من الاكتفاءِ بإحساسِه فقط، وها هو يدعو سَلمى إلى التَّفاؤلِ؛ لِتُقبِلَ على الحياةِ بالعمرِ الذي أُهدَى إليها حُبًّا وتعلُّقًا به دونَ السُّؤالِ عن رحيلِه بكيفَ أو لِمَ؟! ولِتَملَأَ دُنيَاها أحلامًا بريئةً مُتناسِيةً آلامَ ماضٍ ولّى وانقضَى فإنَّ التَّأمّلَ في تفاصيلِ الحياةِ يزيدُ وجعًا وانكسارًا! يقول:
ماتَ النَهارُ اِبنُ الصَباحِ فَلا تَقولي كيفَ مات
إِنَ التَأَمُّلَ في الحَياةِ يَزيدُ أَوجاعَ الحَياة
فَدَعي الكَآبَةَ وَالأَسَى وَاِستَرجِعي مَرَحَ الفَتاة
قَد كانَ وَجهُكِ في الضُحى مِثلَ الضُحى مُتَهَلِّلا
فيهِ البَشاشَةُ وَالبَهاءُ
لِيَكُن كَذَلِكَ في المَساء