خالد محمد الدوس
تعود العلوم الاجتماعية إلى الأصول الإغريقية واليونانية القديمة وتشكّل تراثاً قوياً في تاريخ الفكر الاجتماعي بسبب استفسارهم العقلانية عن الطبيعة البشرية والأخلاق ولذلك فإن علاقة العلوم الاجتماعية بالمجتمع الإنساني علاقة تفاعلية باعتبارها تؤثّر على بنائه ومستقبله من خلال تمويل البحوث والدراسات العلمية والآثار التي تترتب على الموضعية العلمية.
ولقد اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع. ومن الخبراء في هذا المجال عالم الاجتماع الأمريكي من أصل روسي (بيتيريم سوروكين) الذي كان من كبار منظري علم الاجتماع النظري وأحد مؤسسي نظرية الطبقات الاجتماعية والحراك الاجتماعي وأول من أسس قسم علم الاجتماع في جامعة هارفارد الامريكية المخضرمة عام 1930م وترأسه عشرة أعوام.
ولد العالم الراحل سوروكين عام 1889 في توريا بشمال روسيا من أسرة اشتهرت بالفلاحة, وبعد أن أنهى تعليمه العام التحق بجامعة سانت بطرسبرج إلى أن نال شهادة الدكتوراه عام 1922 في فلسفة علم الاجتماع حيث كانت له نزعه اعلامي منذ صغره حيث عمل محرر في جريدة سانت بطرسبرج عام 1917, وفي عام 1918 أصبح عضواً في الهيئة التأسيسية الروسية وانخرط في سلك المقاومة ضد الشيوعيين فصدرت بحقه عقوبة الإعدام..! ثم تحولت إلى النفي فانتقل إلى أوروبا وبقى عامين..! ومنها سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليصبح مواطناً فيها وأستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة مينيسوتا وأنجز خلال عمله الأكاديمي اثنين من أبرز مؤلفاته هما كتاب» الحراك الاجتماعي» عام 1927 وكتاب «النظريات السوسيولوجية المعاصرة 1928 والكتاب الأخير يمثّل دراسة منهجه ونقدية للمدارس الرئيسية في علم الاجتماع الذي عرّفه (سوروكين): بأنه دراسة الخصائص العامة المشتركة لأنواع الظواهر الاجتماعية والعلاقة بينها من جهة، وبين الظواهر غير الاجتماعية من جهة أخرى، ثم انتقل إلى جامعة هارفارد العريقة عام 1930 فأسس قسم الاجتماع فيها وبقى رئيساً لمدة عشرة أعوام وكانت فترة عمله في أعرق الجامعات الأمريكية خصبة في ميدان التأليف والإنتاج العلمي.. ومن أبرزها مجلد «الديناميات الاجتماعية والثقافية» أربعة مجلدات (1937-1941) والدراسة المونوجرافية «المقولات الثقافية الاجتماعية: العلية، والزمان والمكان 1943, وكتاب» المجتمع والثقافة والشخصية» 1947, وفي عام 1950 أضاف أساسية إلى كتابه «النظريات السوسيولوجية».. ثم صدر له كتاب «الفلسفات في عصر متأزم» ثم صدر له كتاب «بدع ونقائص في علم الاجتماع المعاصر» وهو تقويم نقدي لعلم الاجتماع في منتصف القرن العشرين ثم نشر عام 1966 « النظريات السوسيولوجية في عالم اليوم»، وكتاب «المدرستان الاقتصادية والميكانيكية في عام الاجتماع», وقد نشر هذا العالم الفذ في حياته البحثية والعلمية أكثر من (ثلاثين) كتاباً تناولت موضوعات في علم الاجتماع وميادينه.. جعلُته عالماً يحتل مكانه مرموقة ويعترف بها الكثير من علماء الاجتماع في أمريكا وأوروبا بإسهاماته الكبيرة في هذا العلم الخصيب.. فكتاباته الغزيرة وأبحاثه الغنية دفعت بهذا العلم إلى الإمام في الولايات المتحدة الأمريكية حتى إن بعض الخبراء والعلماء في علم الاجتماع يعتقدون حتى تاريخ النظرية الاجتماعية يجب أنيتوقف وقفات فاحصة طويلة عند ثلاثة علماء كبار هم: أوجست كونت، وأميل دوركهايم, وبيتيريم سوروكين، بعد أن تجلى إسهامه في تطوير النظرية الاجتماعية بشكل واضح في مجموعة القضايا الرئيسية. وأمام منجزاته العلمية وإسهاماته البحثية صار عضوا بارزا في أكاديمية العلوم الاجتماعية الأمريكية، كما انتخب رئيسا لجمعية علم الاجتماع الأمريكية لعامي 1964 و1965 وازدادت شهرته وبريقه اللامع في الولايات المتحدة الأمريكية في الترجمات الكثيرة التي صدرت لكثير من مؤلفاته وإعادة طبع مؤلفيه «الحراك الاجتماعي» و»النظريات السوسيولوجية المعاصرة» ولاشك أن العالم الراحل (سوروكين) يعتبر من الأوائل الذين تناولوا مفهوم» الجمود الاجتماعي» حيث ربطه بالمجتمعات التي تكون فيها المكانة الاجتماعية محددة سلفا، وحسب رأيه فالجمود الاجتماعي يكون أما بالتوريث الاجتماعي, أو بإعادة الإنتاج, كما كان من الرواد الذين اهتموا بعلم الاجتماع التاريخي الذي يهتم بدراسة كيفية تطور المجتمعات خلال التاريخ, ودراسة البنية والتصنيفات الاجتماعية, وتأثير العمليات الاجتماعية عليها, ومن الأمثلة الدراسة التي قام بها العالم الراحل (سوروكين) لتاريخ عدة حضارات كبرى أبرزها الحضارة اليونانية والرومانية, وفي اتجاه الاهتمامات التي كانت محطات مضيئة في مسيرته العلمية: علم الجريمة، والظواهر الاجتماعية والثقافية, ووصف الأعراق البشرية, وعلم الإنسان الثقافي, وفلسفة الثقافة.
توفي العالم الشهير (بيتيريم سوروكين) في وينشستر, ماساتشوستس في 10 فبراير عام 1968 عن عمر يناهز 79 عاماً.. بعد أن ترك إسهامات بحثية ومؤلفات علمية ازدانت بها مكتبة علم الاجتماع.. وصف وبحسب العلماء الاجتماعيين المعاصرين بأنه من رواد الاتجاه النظري في علم الاجتماع, أو ما يسمى «علم الاجتماع النسقي» بعد مسيرة امتدت لأكثر من أربعة عقود زمنية كانت عامرة بالعطاء والإثراء، وحافلة بالمنجزات والدراسات العلمية الغنية التي لا تزال تدرّس في أعرق الجامعات العالمية في واقعنا المعاصر.