عبد الرحمن بن محمد السدحان
* (دِنّحي) اسم إنسان من عسير تنكّرت له الحياة.. فأنكرها، وغادر مقرَّه في الريف إلى شوارع أبها وأحيائها قبل أكثر من أربعين حولاً. كنتُ، وأنا في (عهدة) الطفولة ألتقي به صدفةً في شارع أو سكة ضيقة، فيرعبُني مشهدُه، و(خلاقينه) التي لا تكاد تتجاوز ركبتيه، و(ابتسامته) التي تروي جزءًا من مأساة حياتِه البائسَة. لم يكد يدرك من (فضلات) نعيم الحياة شيئًا.. سوى تلك (الابتسامة) المطرزة بالحزن.
***
* وهو ينتمي إلى إحدى القُرى المجاورة لأبها وقد هاجر من قريته إلى أبها في سنّ مبكّرة لسبب لا يعلمه سوى الله، وكان مشهده مرتديًا (سرابيل) هي نفسها تجسّد حالة من البؤس والبأس وإن حاول أحيانًا أن يغلّفها بابتسَامة حزن دفين.
***
* كان يُمضي جزءًا من نهاره متسكعًا في الشوارع والطرقات، فإذا كان المساء، التحف جزءًا من ملابسه واستسلم للكَرَى بعض الوقت، متكئًا على عتبة دكان مغلق ونحو ذلك، فإذا أطل النهار مبكرًا، أخذ يمشي (الهوينى) بلا هدف ولا غاية ولا دليل، ورغم مشهده المحزن إلاّ أنه لم يكن يتحرش بأحد.. أو يخشَى من أذاه أحد.
***
* وأتذكّر أنّ عينيْه (سحّارتان «مفردها سحّارة. أي (حقيبة) ملابس) تُؤْويان الأسرار، تنظر إليهما، فتطلُّ عليك كنوز من الشجن، وكانت ابتسامته (بانوراما) من الأسى المعجون بالأسرار.
***
* وحين حملتني أجنحة طموح المستقبل إلى أمريكا، للدراسة الجامعية قبل أربعة عقود، تذكرت (دنّحي) عسير وأنا أشاهد (دنحييّ) أمريكا، يفترشون أرصفة الشوارع والطرقات لا مأوَى لهم ولا فراش، يسْتمطرون عطف الناس بأساليب مختلفة:
* منهم من يعزف القيثار بما تجود به الذاكرة من الألحان.
* ومنهم من ينتبذ لنفسه ملاذًا على الرصيف بلا حراك.. مكتفيًا بمناجاة النجوم البعيدة.
***
* وهناك صنف آخر من (المشردين)، قد يبادرك أحدُهم بطلب (سيجارة) يُخرسُ بها حنين الكيف في صدره، أو دولارًا واحدًا يطفئ بقيمته رمق الجوع في أحشائه.
***
* وأتذكّر في هذا الصدد مشرّدًا فرنسيًا احترف (شرب) النبيذ الرخيص متخذًا إحدى زوايا (الشانزليزيه) الشهير مقرًا له، وكان مشهده وحده يمسّ شغاف القلب حُزْنًا.
***
* وبعد.. حمانا الله وإياكم قرائي الأعزاء من (تَشرُّد) القلب والذهن ويُتْمهمَا، وما يجلبه من سغب ومحن.