عبدالوهاب الفايز
استكمالاً للحديث الأسبوع الماضي.. نعود إلى استكشاف الحلول بعيدة المدى لتحديات السلامة المرورية بشكل عام. الواقع الجديد والمستقبلي لبلادنا وتوسع حركة النقل واتساع المدن يحمل تحديات كبيرة تتطلب الانتقال النوعي للتدخلات الحكومية حتى تلبي متطلبات السلامة وحفظ الأرواح وتواكب مستهدفات جودة الحياة.
وكان الاقتراح هو: ضرورة إنشاء (هيئة وطنية للسلامة المرورية) تعمل برؤية ورسالة وبمهام شاملة، وبإمكانات مادية وبشرية سخية حتى تواجه التحديات وتقلبها إلى فرص.. وهذه هي الروح التي يتحدث عنها سمو ولي العهد، يحفظه الله، منذ انطلاقة الرؤية: التحديات تُقلب إلى فرص.
ثمة هدف رئيسي لهذا التوجه.. وهو ضرورة فصل التشريع والرقابة عن التنفيذ. لا يمكن أن يكون القطاع هو المنظم والمنفذ، أي هو الخصم والحكم, لقد تنبهنا إلى هذا المرض في الإدارة العامة ونجحنا في علاج عدد من القطاعات. ولتحقيق هذا التوجه، أنشأنا عشرات الهيئات الحكومية الجديدة في مجالات متعددة، وفي مجالات ربما لا ترقى إلى همومها وتحدياتها وآلام السلامة المرورية التي تكلفنا الآلاف من الأرواح والإصابات سنوياً، فالحوادث الإنسانية توجد آلاف المعاقين، وتستنزف ثرواتنا البشرية والمادية.
لماذا نحتاج هيئة وطنية للسلامة المروريه؟
الأسبوع الماضي ذكرنا أن السلامة على الطرق مصدر قلق يحظى بالأولويات الحكومية في العديد من المدن العالمية التي تستهدف جودة الحياة وتستهدف أن تكون أكثر ملاءمة للعيش. وشعور الناس بالأمان في الطريق مرتكز أساسي في بناء المدن الإنسانية. القيادة الآمنة في الطرق حق إنساني ومن ضرورات السلام الاجتماعي. إعطاء الرخصة لقيادة المركبات يوازي الترخيص باستخدام السلاح. التهور في القيادة مع غياب متطلبات السلامة والأمن في الطرق قد يحول السيارة إلى سلاح قاتل. لذا، أمور السلامة بشكل عام توضع في الأولويات السيادية، وتستمد قوة تشريعها وفرضها من هيبة الدولة وإرادتها السياسية. إنها أمور لا تحتمل أنصاف الحلول لأنها ترتبط بأمور مصيرية.
من الأمور الإيجابية لقيام هذه الهيئة أنها سوف تجد آليات جديدة تدعمها. نحن الآن في حقبة الذكاء الاصطناعي، وحقبة السيطرة على السلوك الإنساني السلبي متعدي الضرر عبر معطيات الثورة الرقمية، فعلم المعلومات يجعل السيارة (المراقب المحايد) لسلوك المشاة والسائقين. وهذا يساعد على المكافأة أو المحاسبة، وتجربة الصين رائدة في مجال استخدام التقنية لضبط السلوك العام لقائدي المركبات والمشاة ولمستخدمي النقل العام.
لتحقيق مكتسب سريع بهذا الخصوص، لعل وزارة الداخلية تتبنى أول مشروع استراتيجي لتنفيذ ما جاء في الاتفاقية السعودية الصينية التي نصت على (التعاون في تطوير التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي).
تجميع أمور السلامة المرورية المشتتة في جهاز تشريعي ورقابي واحد يرتبط بمجلس الوزراء ضرورة لاستثمار التطور النوعي الجديد في مجالات مثل: الثورة الرقمية، تطور الدراسات السلوكية والاجتماعية، وفي الدراسات التبعية لفهم عمل دماغ الإنسان بالذات الدراسات العلمية التي تتناول الملهيات للقيادة مثل استخدام الجوال، والتي أثبتت تشتت التركيز في الذهن بشكل كبير. وأيضاً لاستثمار أدوات الرقابة والمتابعة التي تمكن السلطات من ضبط السلوكيات المهددة للأمن وللسلامة المدنية بشكل عام، مثل الكاميرات في المركبات، والبلاغات عبر التطبيقات التي حولت المواطن إلى رجل أمن.
قيام هيئة متخصصة للسلامة المرورية سوف يتيح لنا التوسع لاستثمار تقنيات المدن الذكية، فهذه تكشف عن تطبيقات مذهلة لـ(لمراقبة الإيجابية) على سلوك الناس في المرافق العامة للمدن المليونية الكبرى. السلامة المرورية في زمننا أصبح يديرها خبراء الذكاء الاصطناعي وعلماء البرمجيات، وعلم النفس الاجتماعي، والسلامة المدنية، والقانون والأمن، وهندسة المرور والنقل، وغيرها. إدارة الحالة المرورية للطرق لم تعد بيد الإدارات التقليدية التي عرفناها في عقود مضت. البعد الأمني تراجع وأصبح جزءاً من منظومة متكاملة.
أيضاً قيامها يخدم منظومة الأمن العام. فالأفضل دمج العمل الميداني للمرور مع الأجهزة الأمنية المكلفة بإنفاذ وتطبيق الأنظمة، وعملية الدمج تمت قبل عشرين عاماً، وتم التراجع عنها لأن عنصر المقاومة التقليدي للتغيير في المنظمات العامة وتنازع الصلاحيات فرض حضوره وتأثيره. الآن لن يكون هذا العائق موجوداً بعد تطور التناغم والتنسيق بين الأجهزة الحكومية نتيجة حرص ومتابعة سمو ولي العهد، فقد كان هذا الأمر يُزعجه لأنه يعطل مصالح الدولة والناس.
وربما هذا الآن يخدم وزارة الداخلية في مؤشرات كفاءة الإنفاق الحكومي، وهو التوجه النوعي الذي أحدثته (رؤية المملكة 2030) وأصبح ميدان التنافس الإيجابي لأجهزتنا الحكومية.
هذه الهيئة، (أو الحلم المنتظر).. تحتاج الممكنات الأساسية مثل إنشاء مراكز الأبحاث وصنع السياسات، والمعاهد العلمية المتخصصة. أيضاً يخدمها تطوير الشركات العاملة في منظومة النقل. على سبيل المثال، (شركة نجم) استثمار وطني تبناه البنك المركزي مع شركات التأمين، ونجحت في نموذج عملها، وهي جاهزة لتحويلها إلى شركة وطنية مساهمة قابضة تُدمج مع الشركة السعودية لخدمات السيارات والمعدات (ساسكو) بحيث يكون هذا الكيان الجديد قاطرة وطنية لتطوير قطاع السيارات.
أيضاً نحتاج إعادة طرح برنامج ساهر ليكون تحت مظلة برنامج وطني للتربية المرورية حتى ننفي عنه الصورة الذهنية السلبية وهي (الغاية الجبائية)، وهي صورة تطورت نتيجة غياب ضرورات إدارة التغيير في القرارات الوطنية التي تستهدف إصلاح الشأن العام، وهذا من أمراض الإدارة العامة لدينا والتي تنبهت لها برامج الرؤية.
تحويل كل ما يتعلق بتشغيل برنامج (ساهر) إلى شركة وقفية وبنموذج عمل شركات الاستثمار الاجتماعي الذي يسعى لتحقيق الأثر الإنساني والاجتماعي مع تحقيق هوامش الربح الضرورية لاستدامة وتوسع الأثر وتحقيق الجودة. هذه الشركة سوف توجد البيئة الداعمة لإنشاء الجمعيات الأهلية الخيرية المتخصصة في جميع المناطق، مع تفعيل برامج التطوع في السلامة المرورية. في ظل برنامج التطوع المطبق الآن وما يقدمه من حوافز، لن نبالغ إذا قلنا إن عشرات الآلاف من المواطنين والمقيمين سوف يتطوعون لخدمة السلامة المرورية. هذا مصدر ألم لنا جميعاً وكل مواطن يتمنى أن يكون جزءاً من الحل. وللموضوع بقية.