- من بُنُوَّةٍ اجتماعيةٍ ما، تهبُّ ريحُ التّجربة القصصية للقاص حسن البطران، وتفتحُ أمامنا جدلية التجارب المنوعة التي تهدِفُ إلى إنصاف ذاته بأنْ يثأرَ لها مِمّا لقيهُ ويلقاه في دروب الحياة المنوعة الآفاق سنّاً وتجربة، وعطفاً على ما تركه ذلك من ندوب في قسمات ملكته الكتابية.
البطران، القاصّ السعودي المعروف والحائز على جوائز عدّة عربية ودولية، توفَّر أدبُهُ على وثائق إنسانية مليئة بالمفارقات والوقائع والطقوس المُجت الحسام محيي الدين معية التي تلتمسُ وِجهةَ نظرٍ أبيستمولوجية مطبوعة تستنطقُ دوالٍ نموذجية عمّا يرى إليه من وقائعَ ينهضُ عليها مُنجزُهُ السرديّ، ودائماً على بساط الحاجَةِ إلى بسط مقروئيةٍ جديدة تنتظمُ رؤاه بين الخاص والعام في نصوص رشيقة تنهض على تيمات مكثفة تقنيا لا تُشعرنا بأننا نتعامل مع جنس أدبي يتيم، بلا تاريخ، ولا حيثيات، بل تدفعنا للبحث في انتماء فني يؤكد حضوره بين الأجناس الأدبية العربية، رغم علمه أننا لم نصل بعد إلى تأطير تقليد أجناسي للقصة القصيرة جداً يدفع عن نفسه سمة الإشكالية الهوياتية الخاضعة لسلطة أدب التراث اعتباراً، ورغم ما اتصل منها إلينا من تشاكيل الحكم، والنوادر، والمُلَح، والأقوال المأثورة وغيرها مما تواضع عليه العرب كمنجز كتابي موجز المفردات مكثف المعاني، هي بشكل من الأشكال قصص قصيرة جداً في الشكل والدلالات وتؤدي مهمتها شئنا أم أبينا وإن اختلفت التسمية.
في مثل هذا التصور الموضوعي، صدرت للبطران مؤخراً مجموعتان من القصص القصيرة جداً، الأولى «مارية وربع من الدائرة» عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع، بورسعيد، طبعة أولى 2020 ، والثانية «أجري خلف خولة» عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، العراق، بابل طلعة أولى 2021، حيث يتعامل في الأولى مع الآخر المطلق: الرجل، الذي يخضع لتحولات وقائعية تتنوع بين البؤس والعوز والفراق والحب والنعمة والخير والشر، تأتي بمعظمها تحت سقف رؤيته إلى امرأة ما يتفاعل معها في مفارقات المواقف المتقلبة، أما الثانية فهي مجاز تخييلي باسق الدلالات لنصوصها التي تمرُّ بمخاض تجارب إنسانية تطغى عليها أيضاً صورة الآخر، إنما المرأة، على اختلاف تلونات طقوسها الشعورية: الحبيبة، الوفية، الخائنة، الأم، المخادعة، الثائرة ، وغيرها من العلاقات التي حكمت تفاصيل أحواله معها.
في المجموعتين يوجز البطران مبدعا وبشكل ماتع ومشغول بدقة وبما يناسب المعنى المراد الذي يتطور إلى تداعي تفاصيل مسوغات ومآلات العلاقة مع الآخر، المرأة حيناً والرجل أحياناً، يمكن تفسيرها بالغوص على معاني الكينونة العميقة للحكمة إزاء المواقف والأزمات الإنسانية بوصفها حقائق، ما يجعل مما نقرؤه أدباً غنياً بالرؤى مع متعة الغموض المطلوب والمحمود فيه، كي لا يصبح نصوصاً عادية إخبارية مملة، وهو غموض اقتضى من البطران الموهبة في إطلاق قصة منتقاة بعناية بألفاظها الأنيقة وحسن توظيفها في العبارة الواحدة، تمنح كل شخصية حقها كصوتٍ مُباشِر مهما تكن أهمية الفكرة التي تدافع عنها، ما حتّم اختلاف اللُّغة بين قصّة وأخرى باختلاف وجهات النظر وتداعياتها بين الجوّانيّ منها، أو الخارجيّ.
يثبت البطران مفهوم إنسانية المرأة بمنظور خاص وبمروحة أبعاد خلقية متباعدة منوعة، يطمح فيها إلى اكتشاف أفق التلقي لدى القارئ واختبار قدرته ككاتب على التأثير فيه، مؤكداً بذلك أن القصة القصيرة هي محور مجموعة ممكنات وتشاكيل فنية غضة تلتقي لتؤكد هوية المبدع وتتناسل فيها الرؤى ولا تنقطع بين قصة وأخرى، كمحاولات ريادية تستمد نضارتها الدائمة من الإدراك الجمالي للكاتب وهو يأول ظواهر اجتماعية بارزة ومجازات نفسية ربما، نقول ربما، تفسِّر بمهارة بعض هزائمه الصغيرة كإنسان نموذجي يمثل الآخرين وليس نفسه بالضرورة.
بذلك، يستكمل البطران رحلة اكتناه لمناحي الحياة في إبحارٍ تصويريّ مُرَمَّز يمخرُ اتّساع لُجّةِ المَعِيش بعُمقها المُضطرب، سواءٌ فيها المتنافرُ والمُتآلف وقَدْ أعنَتْهُ بحقّ حركيّةُ الدخول في معضلة اجتماعية ليخرج منها إلى أُخرى في دورة مأسويّة، حقيقية، لا تَجِدُ في الأغلب حلاً لأيٍّ من إحداها، مُبتعداً عن المنظور الأيديولوجي الذي لا يخدم النصوص أفكاراً وآراء، مقترباً من الواقع المكتنز بسرديات المفارقات الحياتية بين بؤس ونعيم وميسور وفقير وجاهل ومتعلم كما في قصة «بورصة» وقصة «أيام ملونة» من مجموعته «مارية وربع من الدائرة»، حيث اندفع بنصّه كي يكون مُراوغاً حدَّ الإِتعاب، خجولاً حدَّ التقية، لكنه مفتوح ولا يستعصي على أَفهام المُتلقِّين، مُدَّخراً فيه على قِيَمٍ فنّية تبتعدُ باتّجاه التّخزين الوقائعيّ لكلِّ حدثٍ بذاته حتى نجاح اللّحظة السّردية التي هي الهدف / القمة، حيث تقفُ فكرته بكلِّ تألقها الدِّلاليّ.
بذلك فإنه لا اغترابَ حَدْسيّ في فهم ذاتية هذا القاصّ الممتلئة بقلق الكتابة، وهيَ ترسلُ قلمها برغبةٍ وتجرُّد في توثيق البدايات باتجاه النهايات التي تذهبُ دائماً إلى درجة الصِّفر في مصائر شخصياتها، عطفاً على تعريةِ المَعِيش بإحساسٍ عميق بـ «لا زمنية الأدب» كما يقول رينيه ويليك وبأنّ الوقت ليس عائقاً صلْباً بوجه القصّ، ما يتيح له رسم فضائه السّردي بذاكرة اعتباريةٍ مسؤولة، تشتقُّ، فيما عايشَتْهُ، قائمةَ ما ثَبُتَ من الصورة على أصلها، لكنها تتنكّبُ استقصاءَ المدلولِ من الدّال في أحياز اللا مُفيد واللا مؤثِّر في القارئ كالاسم أو الوظيفة أو الجنس.
وحدها المواقفُ الزّاخرةُ بالتّضاد تمسكُ بنصوص البطران، وتمارس نظرية الخسارة والربح بين الوفاء والخيانة والكرامة، الحب والكراهية، الحسد والإعجاب، والضعف أو القوّة، مِمّا هو منجزٌ طَلْقُ الصِّياغة عمّا يمور في مجتمعاتنا - على اختلاف خصوصياتها - من مُشكلات، وتحقيقٌ لمناخٍ رؤيويّ مُتعاكِس لِطَرفَي نقيض يُحفِّزُ القارئ على تبني نظرة تشاركية تفضح المسكوت عنه وهيَ تتعالقُ غايةَ الكاتب، فلا ينتظرُ الإجابة عما أثاره الأخير من تساؤلات بل يُبادِرُ بنفسه إلى تأويل ما انبسط من مشهديات معاصرة مجتمعية صادمة في لوحات القصّ.
بهذا المستوى وَكَرَاوٍ مُشارِك، يتقِنُ هذا القاصّ التقاطَ كلّ جزئيةٍ فنيةٍ على حِدَة انطلاقاً إلى مشروعٍ سرديّ مُلتزم، قَيْدَ الجِدَّة والواقعية فلا يبتعدُ من حراسةِ المعنى الجمالي لاستثمار اللُّغة ومستوى التعبير، وسرعة الحوار واختصاره، اشتغال الزمكان، الوعي الشعوري المُكثّف بالترابط مع الزمن الوجيز لكل حبكة، وليس انتهاءً بإدخال القَصِّيّ / الشِّعري ممّا ترجمته بعض المتون إنعاشاً للبِنى الفنّية بينهما، الذي تمحور في أنساق مُتّصلة إلى شخصيةٍ واحدة هي الكاتب نفسه، لتلامس بهذا المعنى صيغة السّيرذاتي في مُمكنات ما انبثقَ عنها.
فإذا ما انتقلنا من التنظيريّ إلى الإجرائيّ نجدُ أنّ الكاتب قد انطلقَ إلى ترتيب منظور موضوعيّ زاخر بالتجديد وهو يشتغل على كلِّ حالة رصدتْ تفاصيل بيئته بحُكْمِ التجربة مع محيطه بشراً وحجرا، وجسّدتْ مشكلةً راهنيّة خاصّة قائمة بِذاتها ؛ ففي قصة «مسار نهايته سراب» نجد البعد المأسوي في علاقته الرجل بحبيبته، وفي قصة «ماء لا يروي» الصورة مختلفة، حيث نصطدم بخيانة الزوجة لزوجها، وكذلك الحبيبة لحبيبها الطيب في قصة «احتراق ورقة»، بينما نصادف المرأة التي تلفظ طفلها في «حرارتها تقاوم الماء»، أما المرأة الثائرة فلها نصيب مما كتبه البطران كما في قصة «ملامح ذات أصوات»، حيث تتمرد على ذكورية المجتمع.
إنها دفقات إنسانيةً حُبلى بتأويل اتصال الكاتب بين ذاته وعالمه الخارجي وهو ينحو إلى مُقترباتٍ إشكالية لتحولات العلاقة بين الرجل والمرأة، فنظنُّ بادئ الأمر أنّهُ قدّمها لنا بمفهومٍ مُتعارفٍ عليه يجعل من نصّه منجزاً عادياً يتعلق بطابع نفسيّ ما، حتى نكتشف سريعاً أنهُ خَرَقَ ذلك الأُفُق التقليدي وبمنظور مغاير مُصطحباً القارئ ليضعهُ في موقف المتسائل عن مسوغات وحيثيات تلك العلاقة ومسمياتها وفرضياتها وكيف ظهرت ولماذا نشأتْ أصلاً موحياً بين السطور أنّ ما حصلَ ويحصل هو نتاج عقليةٍ غير صحّية، تبتعد من مفاهيم الدين والحب والزواج بشكل ممجوج.
ربما هي محاولة جيّدة لتفسير ظواهر مجتمعية وجدتْ لها ندوباً مؤثرة في سلوكيات المعيش من حولنا، وقد نجدها في مدينيّات أُخرى وربّما بنِسبٍ كبيرة، تجد ألف سبب لتطفو فوق سطح المجتمع مع المُعضلات الكبيرة التي يعاني منها أناس هذا الأخير مادياً ونفسياً ممّا لا مفرّ من عرضه في أجناس أدبية عديدة كما في القصّة القصيرة جداً.
بنفس زاوية الرؤية، بسط لنا الكاتب قوة الإرادات العبثية التي يتنكر لها وهي تشرئب بين الحين والآخر لتحكم سيرورة الحياة الانسانية بالفوضى المنظمة، في خط زمني نفسيا، خاص، إنما يصلحُ لواقعه المباشر إنما غير مُقيَّد به، بمعنى امكانية انفتاحه على الماضي القريب، أو تعالقه المستقبلَ المنظور لكل منا، في تداخُلِ أزمنة فرضتهُ الحالة وكوّنَتْهُ في متنِ النصّ من زاوية الوعي بالتناسق مع المكان الذي انتظم وفاقاً لما رسمه الكاتب من شخصيات، حيث فرضت هذه الأخيرة بوظيفتها العضوية وحضورها الإجرائيّ طبيعةَ الحيّز المكانيّ الذي يصلحُ فضاءً للقصّ أهّلَهُ ليُفسِّر معنى الموقف بين الأنا والآخر، مما اتّزرَ بدِلالات التّوَقُّع لمفاهيم متغيرة بديلة لما في مجموعتيه القصصيتين، لم يستطع قسراً ترجمة شيء منها، فظلّتْ متعالقة مع جمادٍ مجتمعي مُشوَّهِ القسمات منتهي الصلاحية تختلط فيه الآمال والرؤى بالصَّمت والقسوة والانتظار الطويل.
في نصوص حس ن البطران حريٌّ بنا الإشارة إلى لُغةِ الوصف التي تنوعت في الجُمَل بين اسمية وفعلية، مُنسرحة بلِينٍ وإشراق من موصوفٍ إلى آخَر في حركة مُتوالدة عفواً تفاوت الإيقاع القصّي فيها بين نصٍّ وآخَر، انسجاماً مع وضعية الدّهشة المُتوقَّعة للقارئ، مع التنبه إلى ما انكشف فيها ملامح حضور القاصّ والشّاعر معاً، ومعالم انزياحٍ عن دائرة القصّ، التي تتناوبُ عباراتُها غير لعبةٍ إيقاعية، إلى حيّز اللغة الشعرية أحياناً، في تمازجٍ إبداعيّ موصوف، حملَ روحَ التمرّد على الحواجز الأجناسية ولامسَ تسريدَ الشِّعر كلازِمَةٍ مِعياريّة مِنْ لوازمِ الفنّ القصصيّ المُنفتِح على التنوّع والتّعدد شكلاً ومعنى كي يؤدّي فِعلاً تصويرياً يُحفظ في ذاكرة اهتمامات المتلقّي، ويؤكِّدَ اتّفاق القصّة مع القصيدة في ذاتِ الكاتب بعيداً مِنَ التّكرار والرتابة، مما قد يحتاج إلى بحث آخر.
** **
الحسام محيي الدين - بيروت - لبنان
- ناقد لبناني