سهام القحطاني
في الفلسفة يخرج «الزمن» من كونه «هو ظرف يأتي ويذهب» ليُصبح «كينونة لا تقبل القسمة على الحدث» كما يذهب المتكلمون، وهذا الاختلاف في ماهية الزمن وقيمة سلطته وأثرها في التحوّل والتحويل هو الذي خلق «جدلية ماهية الزمن وحقيقة كينونته».
نظرت الفلسفة القديمة إلى الزمن على كونه «أزلي جوهر في ذاته» يستعصي على «الفناء» فلا مبتدأ له يؤسس أطراف تاريخه ولا منتهى له يُفسر حيوية تناميه.
ومجهولية تقدير ومقدار حياة الزمن هي التي تجعله مصدرا لجدل حقيقة كينونته، فالماضي كزمن منقضِ وفق الحساب البشري هو وجود ثابت موجود وإن كان في عداد اللامرئي، والمستقبل كزمن لم يُخلق وفق الحساب البشري هو وجود ثابت وإن كان مسار لامرئي، وهذه الفكرة قامت عليها نظرية «السفر عبر الزمن» لتؤكد أن «غياب الزمن كماض لا يعني موت للزمن أو مجهوليته كمستقبل لا يعني عدم وجوده وهو ما يجعل إحياء الماضي ممكنا واستحضار المستقبل ممكنا في تجاوز لانتهاء الصلاحية أو استباقا لبدء الصلاحية.
في الأساطير القديمة تعاملت الفلسفة مع قضية الزمن قبل بداية الخلق على أنه «لا شيء بمعنى الإدراك لا بمعنى الوجود» باعتبار الإدراك لا يتحقق إلا بالفعل كونه هو أثر للجوهر.
ولذا فقد قالوا إن الزمن قبل بداية الخلق غلب عليه «العماء المائي» فكان الماء هو المؤشر على الزمن بصفته السرمدية المقابلة للممتد عبر المطلق العميق داخل غياهب المجهول، ولذا غلبت صفة اللا معلوم واللا محدود على الزمن في بدايات الفلسفة اليونانية.
وفكرة اللا متناهى للزمن هي فكرة غالبة في معظم أساطير الأمم مع اختلاف تكوين آلية تشكيل ذلك اللا متناهي ففي الأساطير الهندية، فكرة اللا متناهي للزمن فكرة غير خطيّة، قائمة على آلية التناسخ وهي عبارة عن دورة حياتية متعاقبة من الكمال إلى النقصان ثم التحلل والعدم والظهور بعد ذلك في دورة جديدة، وهذه الآلية تؤكد خلود الذات سواء في رمزيتها «الزمن» أو حقيقته «الإنسان» ولذا تعد أسطورة التناسخ أن الإنسان تشمله أحكام فكرة اللا متناهي للزمن من خلال انتقاله عبر دورات حياتية متعاقبة من خلال قوالب مختلفة.
وفكرة التناسخ
تجمع بين «العقاب والثواب» من خلال انتقال الروح بين الموجودات، فأفعال الإنسان هي التي تُحدد له طبيعة وصفة «القالب» الذي سترحل إليه روحه ليتجدد وجوده!
ثم ارتبط الزمن بالحياة باعتباره المتحكم في النماء بصيغتيه الإنسانية والطبيعية - الخصِب والجدب» ورمزيتهما الإنسانية، وهذا التحكم حوّل الزمن عند بعض الأمم إلى «إله» باعتباره المتحكم بمقادير الموت والحياة.
وفي المدرسة المالطية الفلسفية حدث التغير الأكبر على يد الفيلسوف «انكسمندر» الذي يعتبر ثورة فكرية على فكرة طاليس التي كانت شائعة بأن أصل هوية الزمن «الماء»؛ إذ قدّم انكسمندر «الحار والبار - الجامد - على الماء» باعتبار الماء حاصل الحرارة، ولا يُمكن تقديم الفاعل على الأثر.
وهذه الانعطافة الفكرية ربطت الزمن بالمادة وبذلك دخلت جدلية الزمن في مساري الكيف؛ «لا تعين» والكم؛ «لا محدود» مع الاحتفاظ بفكرة اللا متناهي، لكن ما يميز اللا متناهي عند انكسمندر عن طاليس «آلية الأضداد» لا الخطية كما عند طاليس، وهي آلية - الأضداد - حاصل أثر المادة «الحار والبارد» في تكوين الثنائيات، وكان من طبيعة الحال في ضوء تكوين تلك الثنائيات أن يرتبط الزمن بدورة التعاقب والتجديد لإصلاح الفساد وفرض العدالة، وبذلك فالزمن هنا يدخل في حكم شبه الإله عندهم!
ونلاحظ في فكرة انكسمندر للزمن أن هناك تشابها بينها وبين فكرة التناسخ في الأساطير الهندية سواء في فكرة الدائرية أو الجانب الأخلاقي.
ثم يأتي انكسيمانس ليعيد فكرة الزمن إلى الخطية كما فعل طاليس ولكن عبر «الهواء» لا «الماء» مع الاحتفاظ بثبات مبدأ اللا متناهي.
أما هيرقليطس فاحتفظ بفكرة الخطية للزمن عبر «مكون النار» كجوهر لكنها ليست تلك التي تُدرك بالحواس، بل هي «نار إلهية لطيفة نسمة حارة حية عاقلة أزلية تملأ العالم» - يوسف كرم -تاريخ الفلسفة اليونانية.
ولعل أخطر ما في فلسفة هيرقليطس فكرة أن «الصيرورة تستوجب الصراع» باعتبار الحركة أصل الصيرورة بضماناتها الحيوية من خلال الأضداد كمحفز لتلك الصيرورة.
وحدثت الانعطافة الفكرية الثانية لجدلية كينونة الزمن على يد المدرسة الفيثاغورثية، وكونها مدرسة رياضية اهتمت بعلاقة الأعداد في تكوين الموجودات فقد رأت أن جوهر الزمن هو العدد الذي يُشكل علاقاته بالموجودات التي تُكرر ذاتها في مسارات دائرية غير متناه «كالكرة المحيطة» كما شبهه فيتاغورث.
وفكرة التعاقب هي تكرار لنظرية التناسخ وما ينطوي عليها من أثر التطهير، وقد استطاعت هذه المدرسة تحرير جدلية الزمن من كينونته الحيثية كما كانت في الفلسفة الطبيعية إلى محاولة «قوننته» وربطه بعلاقات حسابية مع الموجودات.