من معايب المناهج النقديّة التي تُقرأ من خلالها الآداب أنّها تُقدِّمُ رؤية المنهج لا رؤيةَ الباحث مهما كان البحث متميزًا، وفي هذا تنميط الباحثين وجعلهم شخصيّةً واحدةً لا يتفاضلون إلا في تطبيق الأدوات.
ويمكننا قراءةُ إطلاق اسم (منهج) على المناهج النّقدية قراءةً مغايرةً للمعهود في سياق الدرس النّقدي والأكاديمي؛ إذ إنني أجدُ في إطلاقه عليها مبالغةً في تقديرها، وهي في حقيقتها لا تعدو أنْ تكون زاوية نظر لا قالبًا تصنيعيًّا ينتِجُ وفق المدخلات وقوّة الآلة الصانعة واتصالها بالمجتمع.
ويجد المتأمل في دائرة المناهج النقديّة الحديثة أنّها تعطيل لعقول الباحثين عن التعامل مع الآداب من خلال شخصيّاتهم العلمية، ولذلك يكثرُ بعض الباحثين التّواري خلف المناهج النقدية إن لم يصل الحال ببعضهم إلى الانتفاش بما لا فضل له فيه إلا التقليد، وحينئذ تصبح المناهج النقدية الحديثة تكريسًا لمفهوم التَّقليد والرخاوة العلميّة.
ومما يحسُنُ بالباحث الجادِّ الوقوفَ معه اهتمام المناهج النقديّة الحديثة بالتَّأويل العنيف؛ إذ تغلو تلك المناهج النقدية الحديثة في تقديره (التأويل)، وتجعله بداية المنهج ونهايته وغايته، وأنّ البحث العلمي إنْ لم يكنْ تأويلا هو محض تكرار واجترار.
ولإيغالها العنيف في التأويل لا تجد في المناهج النّقديّة الحديثة اهتمامًا بقيمة النّص المدروس أو إضافته للمعرفة أو تنبيهًا على قيمة النصّ الذي يحتجُّ به من ذاك الذي يُحتجُّ له، وهي تقدِّم نفسها إلى المعرفة بوصفها إضافةً محضة، والعلم حقيقةً ليس بمنهجه بل بإضافته، بمعنى أنْ تكون الحقيقةُ العلمية في التزام المنهج؛ لأنَّ المنهج في نظرها هو العلم والمعرفة، وفي هذا إضرارٌ بحقيقة كلمةِ (المنهج) وإضرارٌ بالعلم النافع الذي يجدُ الناس في نتائجه حوائجهم.
والنّظرُ بعين المنهجِ النّقديّ في المادّة الأدبيّة هو مثلُ تسليمِ البحث لشخصٍ آخر يكتُبُه، ما الفرق بين أنْ تستأجر فكرًا يحلِّلُ نيابةً عنك أو يدًا أخرى تكتبُ بدلا منك؟!
وليس إطلاق اسم المنهج على المناهج النّقديّة إطلاقًا صائبًا، بل ما يُسمّى مناهج نقديّة إنْ هي إلا رؤى أنتجتها تصوراتٌ فلسفيّة، والمنهجُ الحقيقي هو ذلك الذي يُرشِدُ فِكرَك إلى الطريق لا ذاك الذي يقودُ عقلك إلى رؤيته، والمناهج البحثيّة التي يكتَبُ عنها في كتب البحث العلميِّ هي التي تستحق اسم المنهج لأنّها طُرُقُ إدراك المادة العلميّة أما المناهج النقديّة الحديثة فهي رؤى تأويلية للمادّة العلميّة تقوّلها ما لم تَقُل، ولذلك يحسُنُ تسميتها: (الرؤى التأويلية الأدبيّة).
ولا يجِدُ القارئ الحصيفُ في المناهجِ النَّقديّة الحديثة (الرؤى التأويليّة الأدبية) احترامًا للنص المدروس بها، فهي إمَّا أنْ تتجه إلى السياق فتحكم على النّصِّ به دون تقييد تلك النظرة بفحواه، أو تتجه إلى النَّسقِ فتجعلَ النّصَّ عالمًا موازيًا للحياة، ومع ما سبق من ملحوظات فإنّكَ لا تجدُ في المناهجِ النقدية الحديثة إفساحًا للمشتغلِ بها أنْ يواجه النّص بجهازه الإدراكيّ والمعرفيّ والثقافيّ، بل تمنعه من ذلك إلا إذا التزم بزاويتها ولو كانت الزاويةُ خطأ وخلطًا وإقصاءً لمعلومٍ بالضرورة، ومن ذلك مثلا أنّ هذه المناهج النقدية الحديثة (الرؤى التأويلية الأدبية) تُزيحُ كل جهدٍ سابقٍ فتقع فيما يسمونه قطيعةً إبستمولوجية، ومن الأمثلة على ذلك أنْ يُسمّى (التشبيه البليغ) استعارةً تصوريّة في المناهج التي تسمّى (عرفانيّة)، وكأنّها تستبعد السابق لتكون بديلا عنه ولو أدّى ذلك لتحطيم المستقرّ واستئناف البناء الحضاريّ؛ لأنّ المهم هو رؤية ما يُسمّى منهجًا طريقًا أوله نهايتهُ، وبدايتُه غايتُه، وليس في تجاوزه إلا الجهل والخطأ، وليس في نتائجه إلا كلَّ العلم والبراءة، وليس الأمر كما يدّعي كلُّ مَنْ يُحِبُّ ليلى.
جامعة الحدود الشمالية – السعودية
إثنين رفحاء، 16 من جمادى الآخرة، لعام 1444 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
** **
- د. عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي