يعد الشعر عند العرب وسيلةً للتعبير عن الذات، فهو سجلٌ لأمجادهم، وتاريخٌ لأيامهم، ومتنفسٌ لآلامهم، وهو مرآة الحياة، فما سيجد فيها سينطبع على الشعر بشكلٍ أو بآخر؛ وهذا ما يفسر تطور الشعر مع تجدد مظاهر الحياة، والقارئ للشعر العربي سيتلمس أثر التجديد من خلال تتبع أطواره عبر الزمن، وما ذاك إلا سنة من سنن الدنيا.
ويُعرَف الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى الذي قيل بقصد، إذن فهو يحمل معنى ومبنى، وفيهما يكمن التغيير الذي تختلف من خلالها ملامح القصيدة العربية، وعليه ستكون مظاهر التجدد في المضمون، والشكل.
أما التجديد في المضمون فيتمثّل في أغراضٍ طوروا معانيها، وأغراض ابتكروها لحاجة دعت إليها، فمن الأغراض المتوسع فيها: المقدمات الطللية فقد كان الشعراء في الجاهلية يفتتحون قصائدهم بالوقوف على الأطلال، فيبدأ الشاعر بالبكاء على الديار؛ وذلك من نواتج ظروفهم البيئية المحتمة للارتحال. وعندما شاعت مظاهر الترف في الحياة العباسية، ثار بعض الشعراء على المقدمة الطللية وأبرزهم أبو نواس، بحجة أنها لا تعبر عن حياة عصره ناقضًا ذاك العرف. وفي رأيي ربما ذلك من آثار الشعوبية التي تغلغلت عند بعضهم، لما عُرف عن أبي نواس من مدحٍ للفرس. وقد نجحت محاولة أبي نواس، وتأثر به بعض الشعراء فصاروا يدخلون مباشرة في الغرض، كما ظهرت مطالع جديدة عند أبي تمام تبدأ بوصف الطبيعة والتغني بها.
أما الخمريات فعرفه الجاهليون في شعرهم، لكنهم لم يتوسعوا فيه كمن جاء بعدهم، ثم تلاشى في العهد الإسلامي لكنه عاد في العهد العباسي، خصوصًا عند أبي نواس، حتى سميت قصائده بالخمريات.
وفي شعر الطبيعة فهو ظاهر الملامح منذ بدء الشعر فوصفوا الجبال والسيول والنبات، ثم مع التطور والتمدن العباسي تطور الغرض فربطوا بين وصف الطبيعة والعواطف الإنسانية فصوروا الأزهار على أنها نساء، وشبهوا صفرة الأزهار بصفرة وجه الإنسان المشتاق، بل جعلوا الطبيعة تتفاعل مع المحبوب فتئن له وتحس بإحساسه. وقد برع الأندلسيون في شعر الطبيعة، ومما ساعدهم على النبوغ فيه جمال بيئتهم وغنى طبيعتهم.
ولا يغادر الفخر محلة القول من هذا السياق فقدمه قدم الإنسان نفسه، ففاخر بالقبيلة والنسب، ثم صار الشاعر يفخر بنفسه لا بقبيلته مع التقدم في الزمن، ومما افتخر به أيضًا علمه وأدبه ونباهته وكفى بالمتنبي مثلًا، أما في عصر الدول المتزامنة فصار الفخر للروح الإسلامية أكثر منه للقبيلة؛ لظروف الأيام التي تستدعي حالة التوحّد لدرء هجمات الحروب الصليبية.
ولا نغادر القول حتى نرصد الرثاء فمن مظاهر تطوره المزج بين التعزية والتهنئة، فكان الشعراء يعزون الخلفية الجديد برثاء فقيده ويهنئونه بالولاية في ذات القصيدة، وهذا في نظري أمر غريب لما فيه من تضاد. ومن تطوره أنه لم يقف على البشر، بل تجاوز ذلك إلى رثاء الممتلكات والحيوانات، وتصاعد ليصل إلى رثاء المدن والممالك ولا سيمّا في الأندلس؛ نتيجةً لتزعزع الأمن وكثرة الفتن والحروب الطاحنة التي عاشها العرب هناك.
أما الأغراض المستحدثة فمنها الشعر العلمي وابتدأه بشر بن المعتمر - على حد بعض الآارء- ، عندما نظم أرجوزة للمعتزلة يشرح فيها مذهبهم، والشعر العلمي منظوم لحفظ العلم من مثل ألفية ابن مالك في النحو. وازدهر في عهد الدول المتزامنة؛ وربما كان ذلك نتيجة إحساسهم بالخطر جراء الحروب الصلبية، فالسبب الذي جعلهم يؤلفون الموسوعات قد يكون هو ذاته الذي سيرهم لنظم العلوم حفظًا لها من الضياع. وكذلك شعر الاستغاثة الذي نشأ في الأندلس إبان الفتن التي عاشوها، فكانوا يستيغيثون فيه طلبًا للنجدة. إلى آخره من تلك الأغراض.
والمتأمل في تاريخ القصيدة العربية يلحظ أن التغيير لم يكن في المضامين فحسب، بل شمل القافية والأوزان فظهرت أشكال جديدة تختلف عن بناء القصيدة الجاهلية الملتزمة بوحدة الوزن والقافية، فعرفت المزدوجات فكل بيت فيها على قافية خاصة، وابتكرت المخمسات والمسمطات وهي من أشكال التجديد في القوافي فتجيء القصيدة على نسق معين تختلف في قافيتها بين أبياتها على حسب أدوارها، ومما ظهر في هذا الصدد اللزوميات عند المعري.
وهذا كله مهد لظهور الموشحات في الأندلس، فضلًا عن إسهام الموسيقى، فهي قصيدة تختلف في شكلها عن القصيدة التقليدية وتتكون من أدوار وأقفال وكذلك تختلف في أوزانها، وهذا من مظاهر التجديد الصريح في القصيدة العربية، وما ذلك إلا انعكاسٌ لمظاهر الترف والتمدن. وقد أثّرت الثقافات الأخرى في شكل القصيدة أيضًا وذلك عندما استوردوا فن الدوبيت من الفارسية ودو تعني اثنان، وبيت هو البيت الشعري، أي أنه لا يزيد عن البيتين ويسمى بالرباعيات.
ومن الأشكال الشعرية المستحدثة: الأزجال عند الأندلسيين وهي قصائد تنظم بالعامية على البحور الشعرية، والكلام المعرب فيها عيبًا، و قد برع أهل الأندلس في استحداث الأشكال الشعرية؛ نظرًا لطبيعتهم الميالة للتحرر والطرب، فضلًا عن رغبتهم الدفينة في التفوق على المشرقيين.
وأخلص من ذلك كله إلى العوامل المسهمة في هذا التغيير، فمن أسباب تطور الشعر مروره بظروف الحياة العديدة فمنها ما هو سياسي: متجليًا في شيوع الشعوبية المعادية للعرب الآخذة بثأر الفرس، وكذلك في هروب العرب بالشعر للهو والخمريات أو حتى وصف الطبيعة؛ في محاولة لخلق واقع مختلف إزاء الفتن والاضطرابات. أو ما هو اقتصادي بتفشي الترف والغنى واتساع الدولة وتنوع المصادر. أو ما كان اجتماعيًا من تجانس الأعراق واختلاط العرب بغيرهم مكتسبين ثقافات جديدة انعكست على الشعر.
أخيرًا إن الشعر العربي القديم متجدد، فمخطئٌ من يعتقد أن الصورة السائدة للشعر القديم صورة الشعر الجاهلي، بل مر الشعر بأطوار من التجدد والتوسع في المضمون أو الشكل متأثرًا بالعوامل الخارجية والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، أو حتى برغبة الشعراء أنفسهم للتغير؛ ليتلاءم الشعر مع نمط معيشتهم ويعبر عنهم ويعكس حياتهم، وما وظيفة الشعر إلا تلك.
** **
- لميس القريشي