ثَمة سؤال جوهريّ يطرح نفسه بعد قراءة أيّ عمل روائي، ما هي الرسالة التي حملتها الرّواية، والتي تُبرئ ساحة الكاتب لحظة المواجهة مع القارئ أو النّاقد، إن عبور رواية تعني المرور عبر طرق فكر ورؤى كاتبها، فهل ظهرت قوّة موهبة الكاتب وسيطرته على تشعبات سرده في دهاليز روايته، حيث الكتابة فعل مرتبط بأشدّ أعماق المرء سرّية، والكاتب نفسه لا يدرك تلك الأعماق أحياناً، وهل نجح الكاتب حامد الشريف في معالجة الحدث الذي سطّره بين دفتيّ كتاب، بكَون هذا الحدث جريمة قتل تركت الجسد حيّاً، أم اكتفى بأن يحيل الحادثة إلى القضاء المجتمعي غير العادل، ورصد ظلال الوقائع من خلال معطيات السّياق الثقافي العام، ليجعل القارئ يتأمّل الانعكاسات على حياة الفتاة سارة بطلة الرواية المغدورة، عبر بنيتها النّفسيّة والاجتماعية. فهل ساعدها على الخروج عن النّسق بهروبها؟
يحكي الشّريف عن قصة هروب فتاة موهوبة من وطنها، تجيد الرّسم، وتعتقد أن الفنّ لا يحلّ أيّة مشكلة من مشكلات العالم إنما يجسّد الألم والجمال والصعوبات، هربت من ظلم أخيها قاسم لتنقذ ما تبقّى من إنسانيّتها، وبعد رحلة طويلة، تبين لها فيها عجزها عن نيل حقوقها قررت العودة إلى حضن الوطن وأمها، لتحيا بعقليّة جديدة مختلفة، إن لم يجهزوا عليها، ولم ينشأ بعدها دمية أخرى ستكون ناضلت على الأقل في الحصول مستقبلا، على ما لم تستطع الحصول عليه في الماضي.
وقد نلتقي بالقارئ العام غير المتخصص الذي يؤخذ بالفكرة العامة ويرفضها منذ اللحظة الأولى ونحترم وجوده، لكن بعض الروايات تطرح فكرة وتعرّي الظروف المحيطة فيها عبر نسق معيّن، لتتنبأ عبر رؤية الكاتب أن هذا الفعل قابل للتضّخم أو الانتشار بتكراره، إن لم يكن هناك رادع للسّبب الأصلي الذي تسببّ به، كون الهروب هنا ردة فعل وليست أصل الفعل، فنرى أنّ التغيرات الحاصلة في المجتمعات الحديثة بمراحلها الانتقاليّة، ستنعكس على وجود مبدعين اهتمّوا بالواقع، لتنطلق رواية مقتل دمية من صميم الواقعية.
إنّ القراءة النّقديّة المنهجيّة هي تلك القراءة التي تؤمن بسلطة المنهج، وإنّ كلّ نصّ أدبي يفرض منهجه، وبما أنّ رواية (مقتل دمية) تعكس واقعًّا معيشًا، وتجربة حقيقية حصلت، فلعلّ المنهج المناسب للتّعامل مع هذه الرّواية هو منهج النّقد الثقافي، بوصفه منهجًا مرِنًا يوازن بين الشّكل والمضمون، كما أنّه يتيح للباحث أن ينفتح على منهج التّلقي، لأنّه يمنح القارئ مساحة كبيرة، فيجعله ينفتح على آفاق معرفيّة ولغويّة، من خلال مخرجات النّقد الثّقافي والبحث عن الأنساق المُضمرة، تلك الأنساق التي تجسّدت في شخصيّة سارة التي اتّخذ الكاتب من شخصيّتها مركزًا بنيويا لقراءة الأنساق المضمرة، وكشف أقنعتها اللّغويّة في الرواية التي حملت عنوانًا فيه الكثير من العنف وانتهاك الحرمات والحقوق، هو ليس عنوانًا مبتذلًا، أو اعتياديّا بقدر ما هو خروج عن المألوف، برمزيّة عالية لقتل الميراث النمطي لكل ما يتعلّق بالجور والظلم الواقع على المرأة، يضع أمامك علامات استفهام كثيرة تجذبك في اللاّوعي نحو الحقيقة. فهل تبحث الرواية عن كاتبها، بقدر ما هو متاح، أم هي فرصة لاقتناصه؟
باعتباري قارئة لا أفصل بين الشّكل والمضمون، أُتيحَ لي رصد التّحولات الاجتماعيّة عبر شخصيّة سارة التي مثّلت تحوّلًا سياقيًّا وخرجت عن النّسق، بقصد هدمه، كما أنّها في الوقت ذاته مثّلت قناعًا تحتجب فيه خلف رؤية الكاتب للسّياق المقيَّد والمقيِّد، كونه يخضع لأنساق مهيمنة دينية واجتماعية. فكانت شخصيّة سارة نموذجًا لهدم هذا النّسق، عن طريق استبداله بنسق وسياق متضادّين معه، وهو هروب الفتاة واستبدالها وطنها الأم، بآخر (أعني سويسرا)، فكانت حركة البطلة تتجه وفق الثّنائيّة الضدّية، التي تشكلت من ( بيئة محافظة وسياق محافظ ضد بيئة متحرّرة وسياق متحرر).
خرج الكاتب حامد الشّريف عن معطف الأدب التّقليدي وأسّس لتيارات حداثيّة من خلال فكّ عقدة القديم بالحديث، والنّهوض بالنّص لفتح نوافذ جديدة على التّعامل مع الضغوط والانتهاكات الحقوقيّة، طالما أن الحداثة هي حركة متغيّرة تتابع مجتمع متغيّر وترصد تغيّراته، لتشرق في الأدب العربي من خلال الكاتب الرواية السعوديّة، وهنا سنتعرف إلى الأسباب التي ساهمت في اقتناص الحالة الإبداعيّة للكاتب، والتي جعلت الرواية تنجو بنفسها لتحيا بطلتها سارة بعد موتها، من جديد.
لقد قيل بالنّظر إلى السّياق التاريخي والثّقافي والاجتماعي الذي ولدت فيه الرواية السّعودية: “إن ظهور الفن الرّوائي إنما هو نتيجة من نِتاج العلاقات بين الذّات والآخر”، ولكن في مقتل دمية تبدّت العلاقة بوضوح بين الذّات وذاتِها بانطلاقة الأولى، عبر مونولوج طويل لم يشاركها فيه سوى كوابيسَها ومجموعة غرباء، وظّف الحلم والكوابيس توظيفًا فنّياً يخدم الحالة التي أسّست للرعب في المكان الذي وفّق في وصفه، وصحوة الضمير ليبدأ الوعي من الداخل، فكانت الثّيمة الرئيسية في الرّواية هي الخوف والقلق. وكما قال الفيلسوف سبينوزا في كتابه فلسفة الأخلاق: “لا وجود لأمل من دون خوف، ولا لخوف من دون أمل”.
وإذا كان الأدب إبداع تركيبي فالنّقد إبداع تحليلي، ولا غنى عن الحوار بين الخطابين، فلا يكون النّقد مبدعا إلّا بوجود أدب مبدع، وقد كان من الواضح تميّز الرواية من خلال اعتماد الرّواية على لغتها الشاعريّة الطيّعة والرصينة بمعجمِها الغني جدًا بالمعاني التي قد تُشكل- أحيانا- على البعض، وليس جميع القرّاء متمكن من اللّغة، ما منحها شيء من التّعالي الجذّاب، بينما وظّف الكاتب بعض الكلمات العاميّة حسب لهجة الجنوب السعودي توظيفًا مدروسًا ليناسب المتكلّم، مرّة من خلال الفتاة ومرّة بصوت الأم تلك الامرأة البسيطة المسنّة، وقد نجح في المواءمة بين اللّغتين معًا، لتُعلن الصّياغة الأسلوبيّة النّموذجيّة تميُّز العمل عن السرد الحكائي البسيط، ما ساعد على استنتاج نفسيّة الكاتب مباشرة من خلال أثره، من ناحية أخرى أثار الكاتب معاناة الذّات النسويّة والكبت والقهر الذي تعيشه المرأة، تحت مسمّى الأدب النّسوي، إن صحّت التّسمية مع اختلاف النّقاد حول ذلك، فالبعض يعرّف الأدب النّسوي بأنه العمل الذي تكتبه النساء عن النساء، ولكنه الإبداع الذي يخص شؤون المرأة حتى وإن كتبه الرجال، والموضوع محل خلاف بين النقاد، وإن كنتُ أميل إلى الرأي الذي يعممّ الأدب الإنساني، بقدر ما يحمل من تمرّد مضامينه على المجتمعات التقليدية الذكورية المحافظة، وسعي الذّات النّسويّة في الثّورة على النّسق المقيِّد، نحو نسقٍ مطلق، حيث تجد الذّات النّسوية ذاتها وتحققّ رغباتها.
فقد سرد الكاتب وفق رؤية خطيّة على لسان البطلة الهاربة من ظلم الأخ قاسم تحت رضوخ الأم لسيطرته بالكلّيّة وتهميش وجودها وفق إرادتها اتقاء لشره، أو خوفًا من خسارته، وفق حركة مشهدية غاية في الدّقة، ووصف بديع حضر جليّا في تصوير الفندق والكنيسة، وصوّر الطبيعة بصورها البكر في وصف جمالي حضر فيه المكان بقوّة، فسرد قصة هروبها من بلدها الأم إلى بلاد الغرب (سويسرا)، حيث كانت حركة البطلة عاجزة عن التّغيير من الداخل، فاتّخذت الهروب سبيلًا بديلًا عن مواجهة النّسق المحافظ، فلم تستطع سارة أن تحلّ المشكلة، وبالرغم من إحكام الكاتب سيطرة الحبكة على تماسك الرواية، وترابطها، فجعل النّسق من الخارج ولم يكن من الدّاخل، ولذلك كان الحلّ الفردي خاصّا بسارة فقط، فليس كل الفتيات لديهن إصرار سارة وظروف سارة عندما سافرت للغرب بلا أيّة قيود، أما وقد استطاعت أن تنفذ ما قررت، بقي عليها أن تستعمل أدواتها بشكل إيجابي مع الحريّة التي حصلت عليها، فلم يكن النّسق جاهزًا، لكن نستطيع استخراجه، عبر رغبة الفتاة في الوصول إلى غايتها، وكيف يمكن للحقّ أن يكون هو اللّوحة المراد رسمها، إذا آمنت الفتاة بإرادتها، عبر العوامل المساعدة وهي (حرية ، بلد غربي، موهبة الرسم، بعض الأموال، أناس غرباء لا يشكلون عنصر ضغطًا عليها)، وكذلك العوامل المعاكسة التي نشأت في ضمير الفتاة وعقلها( من اضطرابات نفسيّة، خوف، قلق، شكّ، القيم التي نشأت عليها) فهذه الفتاة الرّسامة بهروبها إلى مجتمع متحرر لم تعرف كيف تتعامل مع الحرية وقد انتهكت القيم التي تربّت عليها وفق دينها لتعرّي ضعف المجتمع، ثم قتلت الدّمية التي طالما تحكم الجميع فيها متناسين الحقوق والواجبات، لتعيد صناعتها من جديد بصورة أكثر نضجا ووعيا إدراكيّا لتقول في نهاية الرّواية والتي أعتبرها البداية “ أية عبارة تفقد قيمتها إذا قيلت في غير موضعها”.
هذه الرواية تعتبر تيّارا مهما في تطور الرواية العربية من خلال الكاتب السعودي، ونالت تقييما عاليًا لشعريّتها وتميزها بالسرد، ولو فتّشنا عن الروابط بين الكاتب والنّص لن نرى خيوطًا واضحة، إلّا خيطًا يشعّ كالضّياء، وهو غيرة الكاتب على بنات وطنه اللواتي أردن مسايرة العصر والعيش وفق معطياته، ولكنه أراد لهن الحياة الكريمة بدلا عن التعرّض للقتل مرات ومرات، فقد نسعى إلى تغيير العالم من خلال كلماتنا التي نحوّلها إلى أفعال، عبر الآلة تارة وقد اتخّذ الموهبة والحرية أدوات للفتاة، وعبر الإنسان تارات أخرى يؤولها في سياق تطوّر متصاعد، فكان يبادل الأدوار بين الدّمية والفتاة، فتغدو الدمية حقيقة، والفتاة دمية، يعيد من خلالها صياغة بعض الأفكار، للإجابة على الأسئلة المعلّقة، ذلك أن الحياة المعاصرة تفوق قدرة الإنسان على الاستجابة أحيانًا.
** **
- ريما آل كلزلي